في ندوة علميةٍ تحمل بين أمواجها عبق التاريخ ونسيم التجارة ورحلات العلم والمعرفة، شارك الدكتور أديب ناصر لصور، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المساعد في كلية الآداب بجامعة عدن، في الندوة العلمية التي أقيمت في محافظة حضرموت صباح الاربعاء 12 نوفمبر 2025م، تحت عنوان «الملاحة البحرية في حضرموت»، مقدّمًا بحثًا نوعيًا موسومًا بـ «الصلات البحرية بين حضرموت والهند وأثرها على الحياة الاجتماعية والعلمية في الهند – القرن العاشر الهجري أنموذجًا».
لم يكن بحث الدكتور لصور سردًا جامدًا للوقائع التاريخية أو وصفًا تقليديًا لطرق الملاحة، بل إبحارًا عميقًا في ذاكرة حضرموت، وقراءةً حضاريةً للتاريخ، تُبرز الدور الحضرمي في بناء جسور التواصل الإنساني والثقافي عبر البحار.
وخلال عرضه البحثي، رسم الدكتور لصور لوحةً تاريخيةً نابضة بالحياة، استعاد فيها صورة حضرموت وهي تفتح ذراعيها للمحيطات، لا كحدودٍ تفصلها عن العالم، بل كجسورٍ تمتد نحو الهند وشرق أفريقيا والخليج العربي، حاملةً البخور واللبان والعطور، كما حملت العلماء والدعاة والتجار الذين نشروا قيم الدين والعدل والمعرفة.
وقال الدكتور لصور في بحثه:
"إن البحر لم يكن يومًا حاجزًا بين الشعوب، بل كان طريقًا للتعارف والتواصل والتكامل الإنساني، فحضرموت عبر تاريخها كانت منارة بحرية وثقافية، تلتقي فيها التجارة بالعلم، والاقتصاد بالثقافة."
وفي المبحث الأول من بحثه، تناول الدكتور لصور الصلات البحرية بين حضرموت والهند ومنافذها وطرقها، مبرزًا أن الموقع الجغرافي المتميز لحضرموت جعل منها جسرًا للتبادل التجاري والثقافي منذ الألف الثالث قبل الميلاد، حيث كانت تصدّر البخور والعطور إلى الهند، وتستورد منها المنسوجات والتوابل، قبل أن تتحول تلك الصلات في العصور الإسلامية إلى جسورٍ للدعوة والعلم والتسامح.
وأوضح أن ميناء قنا كان المنفذ الرئيس قبل الإسلام، تلاه مرباط وريسوت، فيما أصبح ميناء الشحر مركز النشاط البحري والتجاري والثقافي الأبرز في العصر الإسلامي. أما الطرق البحرية، فتنوعت بين طريق الساحل الذي يصل حضرموت بعمان وفارس والهند، وطريق المحيط الذي يمتد مباشرة عبر مياه المحيط الهندي إلى شرق آسيا.
وفي المبحث الثاني، أشار الدكتور لصور إلى الأثر الاجتماعي العميق للصلات البحرية الحضرمية في الهند، حيث أسهمت الهجرات الحضرمية في تأسيس مجتمعاتٍ عربيةٍ متماسكة في المدن الساحلية الهندية كالمليبار وسورات وحيدر أباد. تلك الجاليات – كما قال – “حافظت على هويتها الثقافية والدينية وأسهمت في النهضة الفكرية والعلمية للهند.”
وأضاف أن الحضارمة جسّدوا قيم العطاء والتكافل بإنشاء الأوقاف والمدارس والمستشفيات، وأدخلوا مظاهر دينية واجتماعية جديدة مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، الذي أصبح جزءًا من الموروث الديني المحلي في بعض المناطق الهندية.
أما المبحث الثالث فقد خصّصه الدكتور لصور لبحث الأثر العلمي والثقافي للروابط الحضرمية – الهندية، موضحًا أن تلك الصلات لم تقتصر على التجارة فحسب، بل كانت جسرًا لنقل العلم والمعرفة، إذ سافر العلماء الحضارمة إلى الهند حاملين معهم علوم الفقه والحديث والتصوف، وأسهموا في تأسيس مدارس ومساجد تحولت إلى منارات علم ودعوة.
وأشار إلى أن السفن الحضرمية نقلت المخطوطات والكتب النادرة بين الجانبين، مما أثرى المكتبات الهندية والحضرميّة على حد سواء، كما امتزجت اللغة العربية باللغات الهندية المحلية، فدخلت كلمات حضرمية في اللهجات الهندية المعاصرة.
وفي ختام مشاركته، دعا الدكتور أديب ناصر لصور إلى إعادة قراءة التاريخ الحضرمي قراءةً حضاريةً شاملة، قائلاً:
"لقد مثّلت الصلات البحرية بين حضرموت والهند نموذجًا راقيًا للتفاعل الإنساني، حيث امتزجت التجارة بالعلم، والدين بالثقافة، والمصالح بالرسالة. وظلّت حضرموت منارة بحرية وإنسانية ترسل أبناءها إلى الآفاق رسلَ سلامٍ وتواصل، فيملأون الأرض علمًا ورحمةً وعطاءً.”
بهذه الروح البحثية العميقة واللغة التاريخية المفعمة بالمعاني، قدّم الدكتور أديب ناصر لصور إسهامًا علميًا يضيء صفحات جديدة من تاريخ حضرموت البحري والحضاري، مؤكدًا أن البحر كان وما يزال طريقًا للسلام، ومتنفسًا للتواصل بين الحضارات والشعوب.