منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، أصبحت محافظة تعز ساحة مواجهة معقدة، تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والسياسية والاجتماعية. انقسمت المدينة إلى شطرين: الشطر الغربي والشمالي بقي تحت سيطرة جماعة الحوثيين، في حين بقي الشطر الشرقي والوسط تحت سيطرة القوات الحكومية، التي يغلب عليها الطابع الحزبي، وبالذات نفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح (إخوان اليمن).
وعلى رغم إعلان تحرير الجزء الخاضع للحكومة منذ عام 2016، لم يرافق ذلك بناء مؤسسات أمنية موحدة، بل ظهرت تشكّيلات مسلحة عديدة، منها ما هو مرتبط بقيادات عسكرية وحزبية. وسرعان ما تحوّل هذا الواقع إلى سلطة موازية فعلية داخل المدينة، تعيش على وقع انفلات أمني متصاعد، وتغيب فيها المحاسبة والعدالة.
ولم يكن اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز، افتهان المشهري، في 18 سبتمبر الراهن، حادثة معزولة بقدر ما كان مؤشرا صادما على حجم الانفلات الأمني والسياسي الذي تعيشه المدينة منذ سنوات. الجريمة وثقتها كاميرات المراقبة، لكن ما تلاها من أحداث كشف للشارع التعزي أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد قاتل بلا رحمة. في نظر قطاع واسع من السكان، هذه الجريمة هي نتاج طبيعي لتحالف معقّد يربط عصابات مسلحة منظمة، وقيادات حزبية، وقيادات عسكرية وأمنية تتعامل مع الجريمة باعتبارها ورقة نفوذ وأداة للسيطرة على المدينة.
نفوذ عسكري وأمني
في الأحياء الشمالية لتعز – كلابة، الروضة، عصيفرة، ووادي القاضي – نشأت خلال سنوات الحرب بنية مسلحة متكاملة تُعرف شعبيا باسم "المفصعين". هؤلاء ليسوا مجرد شبان منفلتين، بل قوة منظمة قوامها مئات المسلحين، بينهم ضباط وجنود شاركوا في حروب سابقة ضد جماعة الحوثي.
ما تكشفه شهادات السكان والناشطين هو أن هذه القوة تعمل كدولة داخل الدولة، تفرض سيطرتها على أحيائها، وتمنح عناصرها حماية كاملة من الملاحقة القضائية. والاتهامات الشعبية تذهب أبعد من ذلك، إذ تحمل القيادات الإصلاحية واللواء 170 دفاع جوي مسؤولية مباشرة عن حماية هؤلاء القتلة واستخدامهم كذراع مسلحة لفرض النفوذ داخل المدينة. ومع كل جريمة جديدة، تقول الشهادات إن السيناريو يتكرر: يتم اعتقال المشتبه بهم لفترة وجيزة لامتصاص الغضب الشعبي، ثم يجري إطلاق سراحهم في صفقات غير معلنة. هذه الحادثة جعلت القتل في تعز ممارسة شبه عادية لا يردعها أحد، وعززت الاتهامات بأن الأجهزة الأمنية والسياسية أصبحت جزءا من المنظومة التي تحمي الجريمة.
ما يضاعف الأزمة هو النفوذ المطلق للإصلاح في مدينة تعز، إذ يجري النظر إليه على أنه القوة الأساسية التي يتفاوض معها الجميع. مستشار قائد المحور عبده فرحان المخلافي المعروف بـ "سالم" يمتلك أعلى مستوى من النفوذ على المستويين العسكري والأمني، ويعرف أنه يوفر شبكة حماية سياسية وأمنية للمشتبه بهم والمتورطين في جرائم "المفصعين". هذه الهيمنة السياسية تعني أن الإصلاح لا يمكن تبرئته من المسؤولية تجاه الجرائم، مالم يتحرك لمحاسبة المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عنها.
السؤال الأساسي الذي يطرحه السكان والناشطون هو: لماذا يظل قائد المحور ومدير أمن تعز في مناصبهما رغم تورطهما المباشر وغير المباشر في حماية القتلة أو الفشل على أقل تقدير في الاستجابة للموقف. ولماذا لا يجري تغيير القيادات العسكرية والأمنية المتورطة؟. لا شك أن استمرار هؤلاء المسؤولين يشير إلى أن المشكلة ليست مجرد فشل إداري، بل استراتيجية مقصودة لإبقاء النفوذ والسيطرة على المدينة.
طارق صالح وقوات الساحل الغربي
لا يمكن قراءة المشهد الأمني في تعز بمعزل عن وجود قائد المقاومة طارق صالح وقواته في المخا والساحل الغربي. هذا الوجود يمثّل ثقلا عسكريا وسياسيا موازيا للإصلاح ويزيد من حساسية الأخير تجاه أي محاولة لاختراق نفوذه داخل المدينة. يمكن ملاحظة ذلك من خلال التناولات الإعلامية لناشطي وإعلامي وقيادات حزب الإصلاح في تعز وخارجها. وهو ما ظهر بجلاء في مقال الشيخ حميد الأحمر، القيادي في الحزب، الذي حوّل قضية اغتيال افتهان المشهري من مأساة إنسانية إلى منصة للهجوم على خصوم الإصلاح السياسيين في الساحل الغربي، متهما إياهم باحتلال ميناء المخا ومحاولة استثمار الجريمة سياسيا.
هذا الخطاب، الذي قدّم تعز باعتبارها "بوابة تحرير صنعاء" وألقى اللوم على أطراف داخلية وخارجية، تجاهل بشكل كلي تقريبا مسؤولية الإصلاح نفسه عن انهيار الأمن داخل المدينة، وأعاد إنتاج السردية الحزبية التي تلقي اللوم دائما على الآخرين لتبرئة القيادات المسيطرة على تعز. ومما لا شك فيه أن مثل هذه المواقف تسهم في تعميق الاستقطاب السياسي وتمنح غطاء إضافيا لشبكات "المفصعين" بدل أن تقدم حلولا لضبط الأمن ومحاسبة القتلة.
الدوافع السياسية والاجتماعية والمالية
الإصلاح، بحسب بعض القراءات المحلية، يراهن على الوقت وانشغال الشارع لتجنب دفع ثمن حقيقي لحماية مسؤوليه، بمن فيهم عبده فرحان (سالم) وخالد فاضل (قائد محور تعز)، ومنصور الأكحلي (مدير الأمن). هذه الحماية لا تأتي مجانا، بل ترتبط بمصالح سياسية ومالية واجتماعية. هؤلاء المسؤولون الثلاثة أداروا المحافظة على مدى سنوات الحرب بأضعف طريقة ممكنة، متواطئين مع القتلة أو من يُسمون "المفصعين"، وتركوا هؤلاء يستولون على ممتلكات خصومهم السياسيين والمغتربين، وفرضوا الجبايات، وسمحوا بانتشار القتل والفوضى بلا رادع.
شبكة الحماية لم تقتصر على الجانب العسكري أو الأمني، بل امتدت إلى الإعلام والسياسة المحلية، ما ساهم في تكريس ثقافة الإفلات من العقاب وإذلال وإخافة السكان. استمرار هؤلاء المسؤولين في مناصبهم، رغم التاريخ الطويل من الانتهاكات، يعكس قرارا سياسيا متعمدا يربط بين حماية النفوذ والحفاظ على مصالح حزبية واجتماعية، على حساب سلامة المدينة وحقوق سكانها. من المهم الإشارة إلى أنّ قائد المحور خالد فاضل، لم يتم تعيينه بقرار جمهوري معلن وإنما فرض من قبل حزب الإصلاح بحكم سيطرته على المدينة.
دور اللواء 170
اليوم، اللواء 170 دفاع جوي، الذي يملك تسليحا ثقيلا ويسيطر على الجبهات الشمالية، متهم بأنه المظلة التي تؤوي المطلوبين أمنيا. أي محاولة لمداهمة معاقل "المطلوبين" تواجه برفض صريح أو مماطلة بحجة أن ذلك قد يشعل صراعا داخليا أو يضعف الجبهة. هذا الموقف ليس حرصا على استقرار الجبهات، بل وسيلة لابتزاز السلطة المركزية والمجلس الرئاسي، والضغط للحصول على موازنات ورواتب موقوفة.
في هذا السياق، سبق أن لوّح هؤلاء المطلوبون بتسليم المناطق الخاضعة لسيطرتهم في تعز إلى جماعة الحوثي في حال أقدمت الجهات الأمنية على اقتحامها، ما يثير مخاوف من تكرار السيناريو ذاته في الأزمة الحالية. وعلى ما يبدو فإن الأجهزة الأمنية المتهمة بتوفير الحماية لهؤلاء لا تتعامل مع هذا التهديد بالجدية الكافية، بل تستخدمه كذريعة للتقاعس عن أداء واجبها.
الغضب الشعبي هذه المرة مختلف، فالمطالب لم تعد مقتصرة على القبض على القاتل المباشر، بل ارتفعت لتشمل "تطهير" أحياء بأكملها، واجتثاث ما يسمى بـ "دولة المفصعين". الدعوات العلنية إلى المواجهة الشاملة تكشف فقدان الثقة الكامل في جدوى الحلول الجزئية. وفي الوقت ذاته، تصاعد الخطاب المناطقي الذي يحمّل أبناء مناطق محددة مسؤولية الجرائم، ما يهدد بتحويل المواجهة إلى صراع اجتماعي أوسع.
القيادات الإصلاحية بدورها متهمة بأنها عاجزة أو غير راغبة في تفكيك هذه الشبكة التي ساعدت في بنائها. "المفصعون"، ويقول كثيرون من أبناء المحافظة أن هؤلاء القادة، هم اليد الضاربة التي استخدمها الحزب في حربه ضد خصومه، ومن الصعب التخلي عنهم دون خسارة كبيرة في موازين القوى داخل المدينة. هذا التناقض يضع الإصلاح أمام معضلة حقيقية: إما التضحية بأداته العسكرية الرئيسية أو مواجهة انفجار شعبي قد يفقده السيطرة على تعز سياسيا وأمنيا.
أما اللواء 170 فليس في وضع أفضل. فالمواجهات السابقة، مثل حملة القضاء على صهيب المخلافي، أثبتت أن الحسم ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية، لكن القيادات العسكرية تتجنب تكرار المواجهة مع المطلوبين، ما يثير شكوكا بأنهم يستثمرون في بقاء الوضع الحالي لتحقيق مكاسب خاصة.
أثر الانفلات على المجتمع والمدينة
واحدة من أبرز اللحظات التي غيّرت موازين القوى داخل تعز كانت مقتل قائد اللواء 35 مدرع، العميد عدنان الحمادي في ديسمبر 2019. إذ مثل اغتياله ضربة قوية لقوات الحجرية التي كانت تشكل ثقلا مستقلا نسبيا عن نفوذ الإصلاح، وفتح الباب لفراغ أمني استغله خصومه للتمدد نحو مناطق الحجرية وتكريس الهيمنة الحزبية. يذهب مهتمون إلى أن غياب الحمادي أسهم بشكل مباشر في تعميق الفوضى وإضعاف أي قوة موازية يمكن أن تعيد التوازن للمشهد الأمني.
ما تكشفه هذه الأزمة أيضا هو أن تعز تعيش معادلة أمنية وسياسية مختلة: جيش وأمن غير قادرين أو غير راغبين في فرض القانون، عصابات مسلحة تتصرف كقوة أمر واقع، وقيادات سياسية تحسب خطواتها وفقا لمصالحها لا وفقا لسلامة المجتمع. هذه المعادلة جعلت سكان المدينة يشعرون أن الدولة غائبة وأن العدالة مستحيلة.
لكنَّ أكبر التحديات التي تواجه المحافظة اليوم هي استمرارية النفوذ الموازي للمجموعات المسلحة التي تتحرك بحرية شبه مطلقة، مدعومة جزئيا من شبكات حماية سياسية وأمنية.
حزب الإصلاح، على الرغم من سيطرته النظرية على مؤسسات المحافظة، لم ينجح في تفكيك هذه الشبكات أو مواجهة هذه القوى المسلحة، ما يعكس إما عجزا واضحا أو تواطؤا ضمنيا يحافظ على مصالحه على حساب استقرار المدينة وسلامة سكانها. ولا شك أن استمرار هذه المعادلة يجعل من الصعب رؤية أي تقدم ملموس في إعادة فرض سيادة القانون أو إنهاء حالة الإفلات من العقاب.
ويمكن القول إن اغتيال افتهان المشهري لم يكن مجرد جريمة فردية، بل كشف عن انهيار متدرج للسلطة الأمنية والسياسية في تعز، واستمرار دولة موازية لعصابات مسلحة منظمة تحميها قيادات حزبية وشخصيات عسكرية بارزة. هذا الواقع يعكس خللا مؤسسيا طويل الأمد، يتجلى في ثقافة التساهل مع المقاتلين ذوي الخلفية الإجرامية، واستثمار النفوذ السياسي لحماية العصابات، وانفصال الأجهزة الأمنية عن دورها في فرض القانون .