في مشهد يبدو وكأنه مقتبس من روايات الخيال العلمي، تتسارع خطوات العلم نحو إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة، ليس فقط عبر أدوات خارجية، بل من خلال الدماغ نفسه. ففي الوقت الذي أعلنت فيه شركة «نيورالينك» المملوكة لإيلون ماسك عن زرع شرائح دماغية لدى 12 شخصًا حول العالم، كشف علماء صينيون عن تطوير خلايا عصبية اصطناعية تحاكي بدقة وظائف الدماغ البشري. وبين الشريحة والخلية، تتشكل ملامح مستقبل جديد، قد لا يكون بعيدًا عن فكرة “الدماغ الصناعي”.
ومنذ تأسيسها، أثارت «نيورالينك» جدلًا واسعًا حول طموحاتها في ربط الدماغ البشري مباشرة بالأجهزة الرقمية، وتؤكد الشركة اليوم أنها زرعت شرائحها لدى 12 شخصًا، بعد أن كانت قد أعلنت في يونيو الماضي عن سبعة فقط. وهؤلاء الأشخاص، الذين يعانون من شلل حاد، أصبحوا قادرين على التحكم في أدوات رقمية ومادية بمجرد التفكير، في تجربة تُعد الأولى من نوعها بهذا الاتساع.
وأوضحت الشركة، أن المرضى استخدموا أجهزتهم لأكثر من 15 ألف ساعة، ما يعكس مستوى متقدمًا من التفاعل بين الدماغ والتقنية. وفي يوليو، أعلنت «نيورالينك» عن إطلاق دراسة سريرية في بريطانيا، بالتعاون مع مستشفيات مرموقة، لاختبار رقائقها في بيئة طبية أكثر تنوعًا.
ورغم أن إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية كانت قد رفضت طلب الشركة في 2022 لأسباب تتعلق بالسلامة، فإن التجارب البشرية بدأت فعليًا في 2024، بعد معالجة المخاوف التقنية.
بين شريحة "نيورالينك" وخلية الصينيين تتشكل ملامح مستقبل جديد، قد لا يكون بعيدًا عن فكرة “الدماغ الصناعي”
ويبدو أن التمويل الضخم الذي حصلت عليه الشركة (650 مليون دولار في يونيو) يعكس ثقة المستثمرين بهذا المشروع الطموح.
في المقابل، وعلى الضفة الأخرى من العالم، يعمل علماء جامعة «فودان» الصينية على مشروع لا يقل طموحًا، لكنه يسلك طريقًا مختلفًا. فقد طوروا خلايا عصبية اصطناعية تحاكي بدقة الخلايا الحية في الدماغ البشري، من حيث البنية والوظيفة.
وهذا الابتكار يأتي في ظل الحاجة المتزايدة إلى أجهزة أكثر كفاءة في الأداء واستهلاك الطاقة، خاصة مع التطور السريع للذكاء الاصطناعي.
وتعتمد الخلايا الجديدة على مكونين رئيسيين، “خلايا” لتخزين الشحنة الكهربائية، تحاكي الجهد الغشائي للخلايا البيولوجية، و”عاكس” لتبديل الإشارات وخلق نبضات تشبه الوامض العصبي. وقد صنع الباحثون شبكة صغيرة مكونة من 3×3 خلايا، لاختبار قدرتها على التكيف مع شدة الضوء، في محاكاة لعملية الرؤية البشرية.
النتائج كانت واعدة، إذ أظهرت هذه الخلايا أداءً عاليًا في مهام الرؤية الحاسوبية والتعرف على الصور، مع كفاءة مذهلة في استهلاك الطاقة. ويُعد هذا التقدم خطوة مهمة نحو بناء أنظمة حاسوبية جديدة، مستوحاة من الطبيعة، وقادرة على التعلم والتكيف.
ما يجمع بين المشروعين – رغم اختلاف المنهج – هو السعي إلى فهم الدماغ البشري، ليس فقط بوصفه عضوًا بيولوجيًا، بل كنظام قابل للتفاعل، التعلم، والتطوير.
فـ«نيورالينك» تسعى إلى دمج الإنسان بالآلة عبر الزرع المباشر، بينما المشروع الصيني يحاكي الدماغ لبناء أنظمة ذكية مستقلة.
لكن هذا التقاطع يطرح أسئلة جوهرية: هل نحن بصدد خلق “دماغ صناعي”؟ وهل يمكن أن تتلاقى هذه التقنيات في نقطة واحدة، حيث يُزرع في الإنسان نظام عصبي اصطناعي قادر على التعلم والتكيف؟ وهل يمكن أن تصبح الخلايا العصبية الاصطناعية جزءًا من الشرائح المزروعة مستقبلًا؟
رغم الحماسة العلمية، لا يمكن تجاهل التحديات الأخلاقية التي تطرحها هذه المشاريع. فزرع شرائح في الدماغ يفتح الباب أمام قضايا تتعلق بالخصوصية، والتحكم، وحتى الهوية. فمن يملك البيانات التي تُستخرج من الدماغ؟ وهل يمكن أن تُستخدم هذه التقنيات في أغراض غير طبية، مثل التجسس أو التحكم في السلوك؟
أما الخلايا العصبية الاصطناعية فهي تطرح تحديات من نوع آخر، تتعلق بمدى قدرتها على محاكاة التعقيد البيولوجي الحقيقي، ومدى أمان استخدامها في أنظمة حيوية. كما أن دمجها في أجهزة قابلة للزرع أو التفاعل المباشر مع الإنسان، لا يزال في مراحله الأولى.
من الواضح أن العالم يعيش سباقًا محمومًا نحو تطوير تقنيات ترتبط مباشرة بالدماغ. فالولايات المتحدة عبر «نيورالينك»، والصين عبر جامعة «فودان»، وأوروبا عبر مشاريع الذكاء الحيوي، كلها تسعى إلى فك شيفرة العقل البشري، وتحويله إلى منصة تكنولوجية.
هذا السباق لا يتعلق فقط بالطب أو الذكاء الاصطناعي، بل يمتد إلى الاقتصاد، الأمن، والتعليم، وحتى الفلسفة. فحين يصبح الدماغ قابلًا للبرمجة أو المحاكاة، فإن كل مفاهيمنا عن الإدراك، والحرية، والإبداع، ستكون في حاجة إلى إعادة نظر.
إن ما يحدث اليوم في مختبرات «نيورالينك» و«فودان» ليس مجرد تجارب علمية، بل هو بداية تحول جذري في فهمنا للذات البشرية. وبين شريحة تُزرع وخلايا تُصنع، تتشكل ملامح مستقبل قد يحمل معه إمكانيات مذهلة، لكنه لا يخلو من المخاطر.
في هذا السياق، يبدو أن السؤال لم يعد “هل يمكننا؟” بل “هل يجب علينا؟” وبين الحماسة والقلق، يظل العقل البشري هو الميدان، والتكنولوجيا هي الأداة، والمستقبل هو الرهان.