منذ انطلاق الحراك الجنوبي في عام 2007م، مرورًا بمحطات تاريخية مفصلية كتحرير العاصمة عدن من مليشيا الحوثي في 2015م، وحتى تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017م، ظل الجنوب بموقعه الجغرافي وثرواته الهائلة تحت مجهر التدخلات الإقليمية. بين قوى تسعى إلى دعم تطلعات شعب الجنوب، وأخرى تخشى من بروز دولة جنوبية مستقلة تعيد رسم موازين القوى، تطرح التساؤلات نفسها بقوة:
هل التدخلات الإقليمية في الجنوب تهدف لحمايته، أم لفرض وصاية عليه؟ وهل الدعم المقدم يكرّس استقلال القرار الجنوبي أم يقيّده؟
-الخريطة الإقليمية للفاعلين في الجنوب
-الإمارات العربية المتحدة.. دعم عسكري وإنساني واستراتيجي
منذ تدخلها في إطار التحالف العربي بقيادة السعودية، برز دور الإمارات كحليف استراتيجي لشعب الجنوب. لم يكن تدخلها ناتجًا عن طموح هيمنة، بل جاء بعد إدراك لعدة حقائق أبرزها:
الطبيعة المقاومة للجنوب تجاه التمدد الحوثي المدعوم إيرانيًا، والحاجة إلى شركاء محليين فاعلين في محاربة الإرهاب، وموقع الجنوب الحيوي على خطوط التجارة والملاحة والطاقة الدولية.
دعمت الإمارات تأسيس قوات الحزام الأمني والنخبة الشبوانية والحضرمية، ووفرت التدريب والدعم اللوجستي، وأسهمت في استعادة الأمن بمحافظات ومناطق الجنوب، شهدت فراغًا أمنيًا بعد انسحاب الحوثيين.
كما قدمت مساعدات إنسانية كبيرة، وأنشأت مشاريع خدمية وتنموية، ما أكسبها ثقة الشارع الجنوبي، خاصة بعد مواقفها الداعمة لقضية شعب الجنوب سياسيًا من خلال دعم المجلس الانتقالي الجنوبي.
-السعودية.. توازن بين دعم الاستقرار ومراعاة التحالفات
رغم أن السعودية تُعدّ شريكًا رئيسيًا في التحالف العربي، إلا أن علاقتها بالجنوب اتسمت بالتذبذب. ففي حين أنها دعمت جهود تنفيذ اتفاق الرياض، وأقامت قاعدة لقواتها في المهرة وسقطرى، إلا أنها في المقابل:
احتفظت بعلاقات قوية مع قوى مناوئة لقضية الجنوب مثل حزب الإصلاح.
تأخرت في دعم استقلال الجنوب أو الاعتراف بالمجلس الانتقالي كلاعب سياسي شرعي. وأبقت وجود قوات عسكرية شمالية في محافظات ومناطق جنوبية كالوادي والمهرة، مما يُنظر إليه كنوع من "التواطؤ مع الاحتلال اليمني".
هذا الموقف السعودي يُفسَّر من قبل محللين بأنه محاولة لضبط توازن القوى وتفادي الانجرار في صراع "انفصالي-وحدوي"، لكنه بالمقابل أفقد الرياض ثقة الكثير من الجنوبيين.
-قطر وتركيا.. دعم الإعلام المضاد وتمويل مشاريع الفوضى
منذ مغادرة قطر للتحالف العربي عام 2017م، بدأت بتكثيف تدخلها في الجنوب عبر دعم أدوات إعلامية وتحريضية معادية للمجلس الانتقالي الجنوبي ولدور الإمارات. وأُعيد تفعيل قنوات مثل "بلقيس" و"يمن شباب" و"المهرية" كمنصات لتشويه القوات الجنوبية والتقليل من تضحياتها.
كما دعمت قطر وتركيا جماعة الإخوان (حزب الإصلاح) سياسيًا وإعلاميًا، وقدمت التمويل لما يُعرف بـ"الذباب الإلكتروني" على مواقع التواصل لضرب أي تقارب جنوبي – خليجي، ولتشويه كل دعوة لاستقلال الجنوب واعتبارها "انفصالية عميلة".
-التدخلات الإقليمية.. حماية أم وصاية؟
-حالة الإمارات.. شراكة مشروطة بالاحترام المتبادل
ترى غالبية النخب السياسية والشارع الجنوبي أن العلاقة مع الإمارات أقرب إلى شراكة استراتيجية منها إلى وصاية. وذلك لعدة أسباب:
لم تفرض الإمارات أي شروط سياسية على قرارات المجلس الانتقالي الجنوبي، وسحبت أغلب قواتها تدريجياً، وتركت الملف الأمني بأيدي الجنوبيين. ودعمت بناء مؤسسات أمنية فاعلة، ولم تخلق ميليشيات موازية أو مراكز نفوذ طائفية كما فعلت أطراف أخرى.
-في المقابل.. مؤشرات وصاية من جهات أخرى
يرى محللون سياسيون أن بعض المنظمات وشخصيات إقليمية تحاول فرض أجندات تهدف إلى:
منع استقلال الجنوب وفرض مشاريع فدرالية لا تعبّر عن طموحات الشعب، والإبقاء على القوى الشمالية داخل الأراضي الجنوبية كجزء من توازنات إقليمية، وكذلك استخدام المساعدات الإنسانية كأداة للضغط السياسي.
وهنا تظهر الفروقات بين الدعم الحقيقي والوصاية المقنّعة. فالدعم الحقيقي يحترم إرادة الشعوب، بينما الوصاية تستبدل الاحتلال بالتحكم غير المباشر.
-استقلال الجنوب.. هدف يقلق المتدخلين
ما يُخيف بعض الأطراف الإقليمية هو أن نجاح مشروع استقلال الجنوب سيغيّر المعادلة الجيوسياسية في المنطقة. إذ سيصبح الجنوب:
دولة مستقلة ذات موقع استراتيجي يشرف على باب المندب وخليج عدن. وشريكًا محوريًا في مكافحة الإرهاب وتهريب السلاح والمخدرات. ومنافسًا اقتصاديًا محتملاً في مجال الموانئ والموارد الطبيعية.
ومن هنا، تعمل بعض الدول على إفشال مشروع الاستقلال أو تأجيله، مستخدمة أدواتها الإعلامية، ودعم الفوضى الأمنية، وتمويل بعض المشاريع السياسية الموازية للمجلس الانتقالي الجنوبي، كـ"مكونات بديلة" لا تحظى بقبول شعبي.
-المجلس الانتقالي.. ثبات الموقف ورفض التبعية
أثبت المجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادة الرئيس القائد عيدروس بن قاسم الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية ونائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، أنه لا يخضع لأي إملاءات خارجية. بل أعلن بشكل واضح في عدة مناسبات أن:
أي دعم لا يحترم تطلعات شعب الجنوب مرفوض. ولا تسوية سياسية ممكنة دون الاعتراف بقضية شعب الجنوب. ولا تنازل عن هدف استعادة دولة الجنوب بحدود ما قبل مايو 1990م.
كما حافظ المجلس الانتقالي على سياسة التوازن مع القوى الإقليمية، منفتحًا على الشراكات، لكنه رافض للتبعية، ما جعله يحظى باحترام بعض العواصم ويثير قلق أخرى.
-رؤية جنوبية لمستقبل العلاقات الإقليمية
أمام هذا الواقع، بات لزامًا على الجنوبيين وقيادتهم رسم معادلة جديدة للتعامل مع الإقليم، وفق النقاط الآتية:
-تعزيز التحالف مع الدول التي تدعم مشروع الاستقلال وتبتعد عن الوصاية.
-الاستمرار في بناء المؤسسات الجنوبية المستقلة سياسيًا وعسكريًا وإداريًا.
-فضح الأجندات الإقليمية المشبوهة إعلاميًا ودوليًا.
-فتح علاقات دولية مع القوى العالمية الكبرى لدعم استقلال الجنوب دبلوماسيًا.
-تمتين اللحمة الوطنية الجنوبية لتفويت الفرصة على أدوات الاختراق الإقليمي.
-الجنوب ليس ساحة نفوذ
الجنوب اليوم ليس مجرد مساحة جغرافية متنازع عليها بين قوى إقليمية. بل هو قضية شعب ونضال أجيال ودماء شهداء، ويمتلك مشروعًا وطنيًا لا يمكن مصادرته تحت أي عنوان.
إن التدخلات الإقليمية، مهما تنوّعت، لا يمكن أن تُغيّر من هذه الحقيقة. الجنوب قراره بيده، ومستقبله تصنعه إرادة أبنائه، ومن يقف معهم شريك، ومن يحاول فرض وصايته عليهم، مرفوض مهما كانت قوته. الجنوب لا يطلب أكثر من حقه المشروع، ولا يقبل أقل منه.