في لحظة سياسية بالغة التعقيد، وبين ملفات مشتعلة في قلب الشرق الأوسط، جاءت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب – في مستهل ولايته الرئاسية الثانية – لتفتح أبواب التساؤل على مصراعيها:
لماذا الآن؟
وما الرسائل الخفية والعلنية التي تحملها هذه الزيارة؟
وهل نحن أمام زيارة بروتوكولية ذات طابع رمزي؟
أم أنها جزء من سياسة أميركية عميقة يُعاد صياغتها بهدوء في دهاليز القرار العالمي؟
في هذا المقال، نحاول أن نُقارب أبعاد هذه الجولة الرئاسية الأميركية من منظور استراتيجي، مستعرضين أهم القضايا المرتبطة بها:
الملف السوري، الدور السعودي، إعادة هيكلة تحالفات المنطقة، ومستقبل الجنوب العربي الذي ينتظر اعترافًا دوليًا طال انتظاره.
أولًا: لماذا زيارة ترامب الآن؟
عودة ترامب إلى البيت الأبيض لم تكن مجرد انتقال سياسي داخل الولايات المتحدة، بل مثلت عودة لنهج القوة والحسم في السياسة الخارجية، خاصة تجاه منطقة الشرق الأوسط التي لطالما شكلت أحد أبرز مسارح النفوذ الأميركي.
واختيار ترامب للشرق الأوسط في أولى جولاته الخارجية ليس عشوائيًا، بل يرتكز على ثلاثة أهداف مركزية:
1. تهيئة المشهد الإقليمي والدولي
يريد ترامب أن يُعيد تقديم نفسه للعالم كقائد دولي قوي قادر على إدارة الملفات المعقدة. والشرق الأوسط – بملفاته الساخنة – يمثل الساحة الأنسب لإبراز هذا الدور القيادي.
2. سد فراغ التردد الأميركي السابق
سياسات إدارة بايدن اتسمت بالتراجع والارتباك، خاصة في ملفات مثل سوريا واليمن. ترامب يستثمر هذا الفراغ ليُظهر نفسه كـ"منقذ للسياسة الأميركية" في المنطقة، ويُعيد صياغة التحالفات بما يتناسب مع رؤيته.
3. إعادة تثبيت التحالفات الخليجية
ترامب يملك علاقات استراتيجية شخصية مع قادة الخليج، وتحديدًا السعودية، الإمارات، وقطر. زيارته توحي برغبة في تجديد الالتزامات وبناء شراكات جديدة قائمة على المصالح الاستراتيجية، بعيدًا عن التحفظات التقليدية.
ثانيًا: الدور الأميركي في الشرق الأوسط – بين الهيمنة والصفقات
الولايات المتحدة لا تتعامل مع الشرق الأوسط بمنظور إنساني أو حقوقي، بل بمنظور مصالح كبرى تُشكّل جوهر الاستراتيجية الأميركية، وأبرز ملامحها:
تأمين مصادر الطاقة والتبادل التجاري.
حماية إسرائيل كحليف استراتيجي.
احتواء النفوذ الإيراني والروسي.
التحكم بالممرات البحرية الدولية.
الإبقاء على المنطقة في حالة "إدارة أزمات" دون حلول نهائية.
ومن هذا المنطلق، فإن أي تحرك أميركي – بما في ذلك زيارة ترامب – يُعد تنفيذًا لأجندة مدروسة بعناية، حيث تُقدّم واشنطن الدعم لأي طرف يتقاطع مؤقتًا مع مصالحها، ثم تنسحب عند تغير المعادلات
ثالثًا: سوريا... من العقوبات إلى شريك محتمل
برز خلال الأيام الماضية تخفيف جزئي للعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، وهو ما قُوبل بترحيب كبير شعبيًا وعربيًا. لكن هذه الخطوة لم تكن مجرد استجابة إنسانية، بل جزء من خطة إقليمية كبرى، تتبلور ملامحها كالتالي:
تسوية إقليمية تشمل سوريا ولبنان وربما اليمن.
تقارب أميركي – سعودي يُعيد رسم الأولويات الاستراتيجية.
مرونة أميركية تجاه بعض الأنظمة مقابل تنازلات جوهرية كالتطبيع أو تحجيم إيران.
اللافت أن هذه التغيّرات تأتي بعد تحولات دولية عميقة، منها تسليم أوكرانيا ضمن تفاهمات مع روسيا، وتسليم سوريا لصفقة أميركية – مما يُعيد ترتيب المشهد في المنطقة.
رابعًا: الجنوب العربي... هل يطرق باب الشرعية الدولية؟
رغم عدالة القضية الجنوبية والتضحيات الجسيمة لشعب الجنوب العربي، إلا أن ملف الاستقلال ظل رهينة الحسابات الإقليمية والدولية، لأسباب معقدة أبرزها:
الجنوب لم يُدرج بعد ضمن "معادلة المصالح الدولية".
بعض القوى الإقليمية ترى في استقلاله عنصر إرباك للتوازن اليمني والخليجي.
لكن الواقع يشير إلى تغيرات لافتة في موقع الجنوب العربي على الخارطة السياسية:
تنامي حضوره في المحافل الإقليمية والدولية.
اعتراف جزئي ومتزايد بالمجلس الانتقالي الجنوبي كممثل سياسي.
امتلاكه لمؤسسات سياسية وأمنية على الأرض.
هذه العوامل مجتمعة تُمهّد الأرض نحو الاعتراف الدولي التدريجي، وإن لم تكن لحظته قد حانت بعد.
خامسًا: هل حانت لحظة الاعتراف الدولي بالجنوب؟
هذا هو السؤال الأكثر إلحاحًا، والأكثر حساسية في الوقت نفسه.
الجواب الواقعي: ليس بعد.
ليس لأن الجنوب لا يستحق الاعتراف، بل لأن القرار الدولي لا يصدر عن معيار العدالة فقط، بل عن تقاطع المصالح. ولكي يحين وقت الجنوب، يجب أن:
يوحّد صفه السياسي داخليًا.
يُبلور خطابًا موحدًا للخارج.
يعزز حضوره الإقليمي والدولي.
يرتبط بقوة بمصالح دولية قابلة للتفاوض.
خاتمة: الجنوب في قلب المعادلة.. ولكن!
زيارة ترامب للمنطقة ليست مجرد حركة سياسية روتينية، بل إشارة إلى تغيّرات استراتيجية كبرى تُرسم بصمت خلف الكواليس.
ومهما كانت أهدافها، فإنها تؤكد أن الجنوب العربي لم يعد غائبًا عن الحسابات الدولية، وأن لحظة الحسم تقترب تدريجيًا.
لكن:
هل سيكون الجنوب جاهزًا لتلك اللحظة؟
هل سيستطيع فرض نفسه كرقم صعب في المعادلة؟
الجواب: نعم، بشرط استمرار الضغط السياسي، وترسيخ الاستقرار الداخلي، وتوسيع الاعتراف الدولي، وقراءة المشهد بذكاء وتوقيت محكم
**رسالة وفاء إلى المملكة العربية السعودية**
في هذه المرحلة المفصلية، لا بد من توجيه الشكر والعرفان للمملكة العربية السعودية، التي أثبتت أنها زعيمة الشرق الأوسط وصاحبة القرار في لحظات الحسم.
لقد كانت المملكة:
الراعية الحقيقية لترتيب أوراق المنطقة.
الدافعة الأولى نحو فك الحظر عن سوريا.
الضامن الأقوى لأمن واستقرار الخليج والجزيرة العربية.
المملكة، أرض مكة المكرمة والحكمة العربية، تحمل اليوم مفاتيح خارطة الشرق الأوسط. وهي القادرة، بحكمتها وثقلها الإقليمي، على تحديد توقيت إعلان الدولة الجنوبية المستقلة، ودورها في حماية الأمن القومي الخليجي والعربي لا يُنكر.
ونحن – شعب الجنوب العربي – نُجدد العهد معها، وندعوها إلى احتضان قضيتنا قبل أن تذهب بها قوى أخرى كبرى قد تستغلها لغير ما نتمنى
والسؤال الذي يبقى مفتوحًا: متى تحين ساعة الجنوب؟
الإجابة لدى المملكة، ونحن معها، على العهد باقون