كتب / نصر باغريب •
اتصل مسؤولا كبيرا بالمكتب السياسي للتنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية بالكاتب الصحفي محمد عمر بحاح مدير صحيفة 14 أكتوبر حينذاك (1978م)، يطلب منه كتابة مقال يذم فيه الرئيس سالم ربيع علي "سالمين" بعد وفاته، ويمدح السلطة الجديدة للدولة، فرفض رفضا قاطعا، كونه كان يكتب ويثني على سالمين وعمله الرئاسي والإصلاحية الذي انتهجه قبل وفاته بأيام فكيف يغير موقفه فجأة وفي ليله وضحاها ويكتب مقالا صحفيا ضده كما فعل الاخرين، وقبل بحاح بطيب خاطر قرار إقالته من مسؤولية ومنصب مدير التحرير بالصحيفة، كثمن لموقفه وقناعاته ورأيه.
تلك رواية لم تنشر، ولم يذكرها الكاتب بحاح في كتابته، بل اسرها لي صديقا مقربا منه.
وفي سنوات النصف الأول من الألفين، اتصل وزير الإعلام التابع لنظام صنعاء وصهر رأس السلطة عبدالرحمن الاكوع بالقائم بمهام رئيس تحرير صحيفة ١٤ أكتوبر حينها فريد عبده حسن سعيد صحبي، يطلب منه موقفا مؤيدا لرأي الوزير ونظامه العفن، فرفض رفضا قاطعا تنفيذ ذاك الأمر من عبدالرحمن الاكوع كون ذلك ببساطه يخالف قناعاته ورأيه وموقفه، فاستشاط الوزير غضبا وارعد وازبد وخير فريد صحبي مابين الامتثال لأمره أو مغادرة الصحيفة والمنصب ، فاتخذ فريد صحبي قراره على الفور ولملم أوراقه وغادر الصحيفة دون أدنى تردد أو ندم على فقدان وظيفته ومنصبه الكبير في صحيفة ١٤ إكتوبر.
هذان الموقفان، لمحمد عمر بحاح، وفريد صحبي، هما الموقفين الوحيدين اللذين حدثا في تاريخ مسؤولي صحيفة ١٤ أكتوبر، لرجالين فضلا احترام قناعتهما ورأيهما وموقفهما -نتفق أو نختلف حولها- على المنصب والكرسي الاثير، وماخلف الكرسي من مكاسب مالية وجاه...إلخ.
وعن فريد صحبي الذي يعد ثاني اثنين في صحافتنا، أو لنقل في الصحيفة الرسمية الأهم للدولة ١٤ أكتوبر، اللذان قالا لا ، وانحازا إلى ما يؤمنون به قيم، وتمسكا بقناعتهما، ورفضا مغريات السلطة والمسؤولية، وهي حالتين فريدتين لم تتكررا حسب اعتقادي، ولعل لاسم فريد صحبي نصيب من فرادته في الموقف وانتصاره على عبودية المنصب والكرسي، الذي يخنع له الكثير، إلا من رحمه ربي.
كيف يقبل فريد صحبي العبودية للكرسي وهو من رفض العبودية بكل اشكالها، فمنذ نعومة أظفاره وهو مقاوما لها ويواجهها بصلابة المناضل الصادق، منذ أن انخرط بالنضال في القطاع المسلح المقاوم بجبهة التحرير ابان الاحتلال البريطاني لعدن والجنوب، وكان سلاحه الناري وقلمه وريشته يلازمانه كمظله مستعدا للاعتقال أو الاستشهاد في سبيل قناعاته وفكره التحرري والانعتاق من عبودية الاحتلال ومفاهيمه التسلطية.
عمل فريد صحبي بالتدريس في مدارس عدن وتتلمذ على يديه المئات بل الالاف في عهد الاحتلال البريطاني، او في عهد ما بعد الاستقلال الوطني لدولة الجنوب.
كان يعلم طلابه الامساك بالريشة والرسم بالالوان، وابداع الجماليات التشكيلية على الورق واللوحات التي برع فيها وأحبها وعلمها لطلابه، ورافق ذلك عمله الوطني الفكري والفدائي المقاوم للاحتلال، وخط يراعه في الوقت ذاته -حينذاك- المقالات الوطنية القوية التي تواجه المحتل البريطاني وتحث على التحرر منه وطرده من أرض الجنوب العربي، وانخرط بالعمل الوطني والسياسي والعسكري والصحفي، كعضو مؤثر في جبهة التحرير، مفعما بالوطنية وقيم الحرية والعزة والكرامة.
أسس وترأس صحيفة الزمان، في الستينيات من القرن العشرين، وكانت صحيفته صحيفة مقاومة ضد الاحتلال، وهو ما عرضه كثيرا للمخاطر والتهديدات، التي واجهها بكل آباء وشجاعة حتى تكللت نضالاته وكفاح الالاف من رفاقه بالنصر المبين وطرد الاحتلال البريطاني من دولة الجنوب.
عقب الاستقلال الوطني للجنوب استمر فريد صحبي بعمله في وزارة التربية والتعليم كمدرس في مدارس عدن، وذلك عقب صدور قرار الجبهة القومية بايقاف الصحف، ومنها صحيفة الزمان التي يملكها وترأسها،
وعندما عاودت الصحف الصدور في التسعينيات من القرن الفارط أعاد اصدار محبوبته وصحيفته (الزمان)، غير أنه لم يستطع الصمود أمام تكاليف الاصدار والأعباء المالية التي فاقت قدرته على استمرار طباعة صحيفته فاضطر إلى توقيف صحيفته عن الصدور، ورفض تبعية الصحيفة لأي طرف مقابل دعم مالي لمواصلة طباعتها.
مما دفع سلطات نظام صنعاء بمحاولة احتواءه بكل الأساليب غير المباشرة ، فتم تعيينه نائبا لرئيس تحرير صحيفة ١٤ أكتوبر الحكومية، ثم قائما بأعمال رئيس التحرير، ولكن هذه المحاولة معه من فبل السلطة، فشلت فشلا ذريعا في إخضاعه وتغيير مبادئه، فتم إقالته بموقف دراماتيكي كان هو بطله الوحيد والحقيقي، في حين كان دور وزير إعلام نظام صنعاء هو الكومبارس الهزيل رغم مايمتلكه من قوة السلطة.
ارتضى فريد صحبي حياته الحرة بعيدا عن اغراءات السلطات ومناصبها ومسؤولياتها، ورفض لاحقا كثير من العروض لتولي مسؤوليات صحفية، وعاش سنواته الاخيره مثابطا بقوة قيمه ومبادئه، منعزلا إلا مع بضع أصدقاء، وقراءاته الثقافية المختلفة، وكان يقضي يومه بالقراءة أو اللقاء مع بعض المعارف والأصدقاء، وأيضا مع رياضة المشي التي أحبها ومارسها يوميا، كنا نشاهده يوميا وهو يدرع أحياء وحويف مدينة التي عشقها حتى الثمالة عدن ذهابا وأيابا، لم يتناول أي منبهات كالسجائر أو القات كبعض أقرانه.
غير أن فريد صحبي ألتزم الصمت، وظل يعاني بصبر من المرض الذي أصابه بالاعوام الأخيرة، ولم يخبر حتى أقرب الأقربين له بما يكابده من ألام المرض وتداعياته على جسده المنهك، وهو ما كشف لنا مدى عزة نفس فريد صحبي واحترامه لذاته ولكرامته.
زرناه اليوم الخميس 28 فبراير 2024م، في منزل العائلة القديم التابع لرب الأسرة المرحوم عبده سعيد صبحي في حافة الزعفران بمدينة كريتر بعدن، وأسرة صحبي من الأسر العدنية العريقة ولها ادوار وطنية والثقافية واجتماعية مشرفة منذ منتصف القرن الماضي، ولفريد صحبي شقيقان اكبر منه توفاهما الله وهما، محمد وحسن صحبي، وله ولد وبنتان.
احب فريد صحبي عدن كما لم يحبها أحدا من قبله، تماهى مع أبناءها وبيوتها وازقتها، وامتزج مع ترابها، وكان هو هويتها وعنوانها البارز، بطبيعته وأخلاقه وقيمه ودماثه خلقه.
وقد صدمنا اليوم عندما شاهدناه مسجيا على سرير المرض بلا حراك وقد أخذ المرض منه ماخذه، عندها استرجعت التاريخ الطويل لهذا الرجل ونضاله الصحفي والسياسي والفدائي ومحطات حياته المفعمة بالكرامة والاباء، وكيف تمسك بمبادئه ولم ينحني أو يخضع، وبقى يصارع عاتيات المراحل بشموخ وكبرياء دون نفاق أو تدليس ودون أن تغريه المغريات..
لم يخبر أحد بمرضه وصبر على ألمه..، لم يشتكي لأحد لم يطلب شيئ من أحد، بقي كالشجرة بجذورها العميقة بالارض، التي عاشت بشموخ وتواجه أيامها الأخيرة بكبرياء دون أن تنثني أو تنكس..
لم يكرمه أحد إلا بعد أن فتك به المرض بالاشهر الاخيره، وكأن لسان حاله يقول لا اريد منكم شيئا، لقد امتلكت مالم يمتلكه الكثيرون منكم..كرامتي ومبدئي وحرية رايي وموقفي.
سلاما عليك فريد صحبي، فريدا في واقعنا المر والجاحد لامثالك.
• مدرس بجامعة عدن