تاريخ النشر: الاحد 23 يوليو 2023
- الساعة:13:36:09 - الناقد برس_كتب_د. عيدروس نصر.
في منشور سابق كنت قد وعدت متابعي صفحتي بالتعرض لما أسميته بـ”أكذوبة حكومة المناصفة”، وها أنذا أتوقف عند هذه القضية وفاءً بالوعد.
كان من الواضح منذ اليوم الأول أن الحديث عن “حكومة المناصفة” يمثل أكذوبة تنطوي على مجموعة من ألعاب “الخدع البصرية” التي يمارسها الحواة ومحترفو الألعاب السحرية.
لقد احتوى مفهوم “المناصفة” ن
فسه على مجموعة من الأفخاخ جرى إعدادها بإتقان من قبل شرعيي أحزاب تحالف 1994م ومعهم بعض المبتهجين بمشاركتهم في الحكومة ولو بوزير واحد أو بنائب وزير، ولا يهم بعد ذلك أن يكون الفشل هو المآل المحتوم لهذه الحكومة فـــــــ”المناصفة” هي الأهم عند هؤلاء، ولو كانت محصلة عملها صفراً كبيراً يتعملق على مسمع ومرأى كل ذوي الألباب، وكل هذا يأتي على حساب عذابات الشعب في الجنوب الذي هو ميدان تحكُّم هذه الأكذوبة الكبيرة المدعوة بالــ”حكومة”.
وهكذا جرى ما جرى في العام 2019 بتكوين الحكومة على النحو الذي يضمن إفشالها وتحولها إلى صنم ملغوم مسموم يقضي على حياة الملايين من المواطنين الجنوبيين.
فأولاً: جرى إفراغ المناصفة من مضمونها بتحويلها إلى مناصفة حزبية، وحيث إنه لا يوجد حزب شمالي يؤيد قضية الجنوب ويثمن تضحيات الجنوبيين ويتفهم معاناتهم، فقد أصبح معظم الوزراء الحزبيين أداة تعطيل في حكومة المناصفة حتى وإن كانوا جنوبيين فالوزير الإصلاحي أو المؤتمري أو الرشادي شماليا كان أم جنوبياً هو مخلص لحزبه المتمسك بنتائج حرب 1994م التي يعتبرها تجسيدا لآية قرآنية مقدسة ” واعتصموا . . . . ” حتى وإن كان هذا الاعتصام يعني قتل وتشريد وتجويع الملايين من الجنوبيين الذين أصبحوا مجرد أرقام هامشية ممقوتة لدى قادة هذه الأحزاب المتحكمة في مصائر أبناء البلد المنكوب.
وثانيا: كان المحاور الجنوبي يتعاطى بكل نبل وسمو مع الأفكار والمبادرات المطروحة باتجاه تشكيل “حكومة المناصفة” وكان الهم الغالب جنوبياً هو إيقاف الحرب وتوفير الخدمات ودفع المرتبات، ولم يُنَفَّذ من هذه المتطلبات الثلاثة البديهية التي لا تحتاج إلى أي اتفاق، لم يُنَفَّذ منها أي بند وما توقفت الحرب إلا بعد استقالة الرئيس هادي حينما اكتشف أتباعه أنهم كانوا يدافعون عن مصالح خصومهم وخصوم الرئيس المغلوب على أمره.
لكن أكذوبة المناصفة تكمن باكثر تجلياتها في مكانٍ آخر، فحتى الشركاء في بقالة أو مطعم أو حتى (كشك) على قارعة الطريق عند ما يشتركون في مشروعهم بالمناصفة يتفقون على أن المناصفة هي بنسب العطاء والأخذ وليست في أن يعطي أحد الشريكين كل شيء مقابل الحصول على وهم (نصف مزيف) من الحصيلة، بينما يستحوذ الشريك الآخر على كل الحصيلة دون أن يعطي شيئاً من مدخلات هذه الشراكة.
ومن هنا فإن السؤال هو كم المدخلات التي ساهم بها الأشقاء الشماليون من أجل إنجاح “حكومة المناصفة”؟ وكم المساحات المحررة التي أدخلوها في نطاق مساحات حكم هذه الحكومة، وكم الشهداء الذين سقطوا في سبيل تحقيق هذه “المناصفة”، وبعبارات أخرى كم العطاءات الجغرافية والديمغرافية والمالية التي ساهموا بها في تكوين وتعزيز وتقوية ممكنات حكومة المناصفة، وباللغة التجارية والمالية كم الخسائر التي تكفلوا بها ليحصلوا على نصف (وبالأحرى كل) الفوائد؟
بعد مشاورات الرياض جرى تعديل التركيبة السياسية لــ”الشرعية” بحيث أصبح الأشقاء في الجمهورية العربية اليمنية هم النافذون في صناعة القرار وفي التحكم بتركيبة كل الأجهزة الإداري والعسكري والأمني والمالي والقضائي، وتحت شعار ” المناصفة” صارت المعادلة السياسية الجغرافية والديمغرافية على النحو التالي:
الشمال (والحديث هنا عن الطبقة السياسية الحاكمة.
ليس عن الشعب الشمالي المغلوب على امره) يحوز على: كل السلطة في الشمال،ـ وكل الوزراء في الشمال، و80 % من السكان، وكل موارد الشمال النفطية والضريبية والجمركية والعوائد المستحدثة من واجبات ومجهود حربي ورسوم تجارية، وعائدات خدمات الماء والكهرباء والخدمات العامة وغيرها.
لكن لندع الشمال الحوثي وشأنه، ولنتحدث عن شرعية الجنوب (المحرر).
فتحت يافطة المناصفة يتمتع الأشقاء الشماليون بكل السلطات التشريعية والتنفيذية والرئاسية في الجنوب، وكل العائدات ومبيعات النفط والثروات المعدنية والبترولية والثروات السمكية والزراعية وعائدات الرسوم والضرائب والجمارك وكل الموارد التجارية، وبكل مواقع صناعة القرار الداخلي والخارجي بما في ذلك السلك الديبلوماسي، . . . ببساطة لأن المتصرفين بها هم تلاميذ المدرسة العفاشية التي أوصلت البلاد والعباد إلى هذا الدرك الأسفل من التهاوي والانهيار والرجوع القهقرى إلى قعر الجحيم.
فأين المناصفة إذن؟؟؟
إن “المناصفة” هي أكذوبة كبيرة فاقعة تفقأ كل عين من تلك العيون التي لا ترى ما وراء الأسطر والمفردات من معاني مفخخة وكلمات وعبارات واستعارات وكنايات ملغومة.
ومن البديهي بعد كل هذا أن تكون ثمرة تلك الــ”مناصفة” الزائفة هي تلك العذابات والجحائم التي يعيشها أبناء الجنوب في كل مديرية ومحافظة وقرية وحارة.
إنني لا أتهم المحاور الجنوبي بعدم الكفاءة ومحدودية المقدرة والعجز عن تقدير النتائج البائسة من خلال المقدمات المختلة، لكنني أتهمه بالمبالغة في النبل وحسن النوايا والزهد الفائض عن الحاجة في فرض الشروط الضامنة لتجسيد مصالح المواطن الجنوبي بسواده الاعظم، وكل ما يجعله صيداً سهلاً لهوامير الشركاء الماهرين في الخداع والتزييف وتزويغ العبارات وتفخيخ المفردات، الشركاء الذين فشلوا في استعادة قرية واحدة يقيمون عليها حكومتهم فالتجأوا إلى الجنوب الطيب والمُبَالِغ في نبله ليمنحهم وطناً بديلاً يحكمونه دون أن يقدموا له شيئا يؤكد انتمائهم إليه، بل ويواصلون عقابهم له من خلال حروب الخدمات وسياسات التجويع وتحويل الجنوب إلى أسوأ نموذج لنظام حكم في الدنيا كلها.
أخيرا:
هل يعتقد شركاء حكومة “المناصفة الزائفة” أن الشعب الجنوبي لم يفكر بالثورة والتمرد على اتفاقاتهم الخرقاء؟
وهل يتصورون أنهم سيواصلون سياسات التجويع وحرب الخدمات دونما حسيب أو رقيب؟
وهل يظنون أن فسادهم الذي فاحت رائحته في كل أرجاء الأرض سيمر دونما مساءلة أو محاسبة؟
إن التجارب التاريخية في كل بقاع الأرض مهما اختلفت ملابساتها وتباينت معطياتها وتمايزت خلفياتها تؤكد أن الفساد إلى زوال وأن أساطينه مهما علا شأنهم أو تضخمت ألقابهم لن يستطيعوا أن يخادعوا الشعوب إلى الأبد، أو كما يقول الشاعر التركي الخالد ناظم حِكمَت: “إنك قد تستطيع أن تخادع بعض الناس بعض الوقت، أو أن تخادع بعض الناس كل الوقت، أو أن تخادع كل الناس بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخادع كل الناس كل الوقت”.
وهكذا فإن فاسدينا قد أصبحوا منشغلين في كيفية الخروج من محكمة المساءلة الشعبية التي لا تعرف الرحمة ولا تتقن لغة الاستعطاف والاستغفار وتراتيل التوبة المخادعة والاعترافات المشينة في أَدْيِرَة قساوسة الغفران الزائف.
وإن غداً لناظره قريبُ