سعدت بالتفاعل مع منشوري الاول (كلمة عن إيقاف الحرب وبناء السلام وبناء الدولة). هذا الجزىء مستوحى من آراء المتفاعلين الذين تسألوا عن مدى واقعية الطرح في المنشور السابق ومن قد يكون مناصريه من الاطراف المعنية.
كنت قد وضحت بان الطرح في منشوري السابق يرتكز على فرضية مدرسة السياسة الفكرية الليبرالية او التعددية.ولكني في هذا المنشور اختبر نظرية مدرسة الواقعية السياسية والتي يعتقد البعض أنها أكثر تماشياً مع المجريات في اليمن.
ترتكز الواقعية السياسية على الاعتراف بطبيعة التنافس بين المجموعات على المصالح التي تحددها في اطار مجموعتها. ولذا فإن الاعتماد على القوة هو عماد هذه النظرية. وهذا ما يبرر تنافس الدول على القوة النووية والعسكرية بالاضافة الى اهمية اظهار الجدية في استخدامها حالما لزم الامر. تطورت هذه النظرية على مدى السنين حتى وصلت الى ما بات يعرف بالواقعية السياسية الحديثة، التي تعترف اكثر بأهمية نهج الحوار والدبلوماسية ولكنها لاتزال تعتبر نفوذ تلك الجهود مرهونة على القوة العسكرية.
قد يعتقد البعض انه إذا ما راقبنا التطورات في اليمن من خلال عدسة الواقعية السياسية تتضح لنا الرؤية. فالتوجهات والمواقف السياسية تمثل مجموعات لها مصالح محدودة و تسعى جاهدا من خلال استخدام القوة لضمان مصالحها. سواء كان هذا على الصعيد الوطني او الاقليمي. والمجموعات في اليمن خليط بين ما هو قائم على الحزبية وما هو قائم على المناطقية او القبلية او المذهبية او السلالية.
لم يكن هذا مقتصرا على اليمن فحسب، فرأي أيمي تشوى بروفيسور القانون في جامعة ييل الأمريكية والتي لخصت في كتابها (القبائل السياسية – فطرة الجماعة ومصير الامم)، ان الديمقراطية في افغانستان والعراق وغيرها قد تكون عملياً اتت لتفند المجموعات بحسب الهويات السياسية ولكنه لا يزال تحت كل هوية سياسية ملامح غير سياسية تميز كل مجموعة.
فيمكن القول ان تجربة الديمقراطية في اليمن كانت مرحلية قبل اوانها لأننا كيمنيون لا نزال عالقون في مصالحنا على مستوى مجموعاتنا المصغرة. والصراع غالبا كان بين مجموعة سيطرة على الحكم بالقوة، ثورة كانت ام انقلاب، واخرى همشت، حتى وان شرعنت بعد ذلك بشكليات من الشراكة والديمقراطية.
ويمكن القول اننا لم نتمكن من تكملة مشروع وطني يجمعنا الى الان. فالوحدة سرعان ما تعثرت كمشروع وطني بحرب 1994، و الحوار الوطني الشامل انتهى ايضاً بحرب 2014 بغض النظر عن القصور في بعض جوانبه او مراحله.
عدا ذلك فنحن نعيش الان موجة عالمية من الشعبوية القومية التي لها اثار سلبية على هذه الانقسامات الداخلية. بحسب ما توصلت اليه دراسة لأحد المؤلفين لدى قسم العلوم السياسية في جامعة بنسيلفينيا الامريكية، الدكتور جريتشين شروك-جاكوبسون، فإن القومية تتسبب في خلق دوافع لقمع المعارضة الداخلية بالقوة ناتجة بذلك الى حروب داخلية.
اضافة الى ذلك لقد وظف السياسيون هذه الانقسامات الداخلية للتلاعب بالقواعد الشعبية دون الالتزام بالبرامج السياسية للحزب او النظام. العديد من القادة والسياسيون نهجوا مؤخرا في خطاباتهم الى القومية الشعبوية مع القواعد الشعبية حول احتياجاتها من الامن و العمل، معتمدين بشكل اكبر على محاكاة الشارع مباشرة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي.
يمكن التعامل مع تركيبة الجماعات بإيجابية اكثر. هذا يعني اولاً و على سبيل المثال اعتبار من تعامل مع الحزب الاشتراكي اليمني على انه يضم توجه الفكر الاشتراكي الشيوعي لمفكري الاتحاد السيوفيتي فقد اخفق. لأن هناك خصوصيات قبلية وثقافية ودينية للشأن اليمني ميزتهم عن ذلك. وكذلك هو الحال مع حزب الاصلاح وحركة الاخوان المسلمين، وحركة أنصار الله وحزب الله، والحركة السلفية مقارنة بالحركات المتطرفة الارهابية المدعية للاسلام. إن فهم التركيبة للجماعات تتيح سبل عديدة للتعامل وإيجاد أرضية مشتركة.
بناءاً على هذا وفي النهاية حبيت أن ابين النقاط التالية:
اولا: يجب علينا ادراك ان الواقعية السياسية تقاس على مستوى المصالح بين الدول حيث لم ولا يوجد التزام جاد بالقانون والاعراف الدولية. أما على الصعيد الوطني فالافتراض ان هناك دستور وقوانين يحتكم بها.
ثانيا: يجب مراعاة ان هناك ضبابية بهذا الخصوص في اليمن بسبب أزمة في الهوية الوطنية واغفال للدستور والقانون. كان هذا نتيجة سياسات احادية مررها كل من سيطر على الحكم بالقوة دون مراعات عواقب تهميش الاطراف الاخرى. بالتالي تم تفصيل وطنيات لا تلائم الا فئة حاكمة واتهام كل من عارضهم على انهم غير وطنيون. وتم التلاعب بقوانين الديمقراطية حتى أصبحت الاطراف الاخرى لا تؤمن بها. ولم يتبقي في الاخير،الا،خيار العنف.
ثالثا: يجب علينا متى ما كان الظرف مناسب، إذا اردنا الخروج من دائرة الصراع المحلي، أن نتوصل الى معادلة ترضي الاغلبية حول:
1. تشارك في السلطة بين الصعيد الوطني والمحلي وأنا أرى شخصيا أن للمحليات شأن كبير.
2. تشارك في الثروة بحيث تكون جميع الوحدات الادارية، كيف ما تم الاتفاق عليها، قابلة للحياة والنمو.
3. التوافق على قوانين التداول السلمي للسلطة (السجل الانتخابي وقانون الانتخابات الاجراءات الادارية المتعلقة باجراء عملية الاستفتاء والانتخابات).
رابعاً: يجب ان لا نستسلم لفكر الواقعية السياسية على الصعيد الوطني لانه خاطئ، كما انه سيبقينا في حلقة صراع الى مالانهاية مستغلين الاحداث المحلية والاقليمية والدولية لتقديم مصالح مجموعة سياسية او دينية او سلالية او مناطقية على اخرى، ولو بعد حين.
خامسأ: ينبغي على الاحزاب والحركات السياسية اليمنية ان تركز في تمثيل المصالح الوطنية مع مراعات الخصوصيات الاقليمية. و ان لا تبيين نفسها على انها امتداد لتوجه قومي سياسي خارجي من خلال اسمها او مواقفها بعيداً عن الواقع الوطني والاقليمي.