المواجهة التي كل الناس في السودان يعلمون أنها واقعة لا محالة، فالحروب دائماً لا تنشأ ارتباطاً ولكنها تنشأ من أسبابها الظاهرة الخفية، حتى تتمكن كل الشروط والاركان لذلك فتندلع لتقضي على كل شيء جميل، فقد اندلعت هذه الحرب وبدأت شرارتها الأولى شمالاً في منطقة مروي المطلة على المطار العسكري وانتشرت في يومها على أرجاء العاصمة الخرطوم التي شهدت مواجهات عنيفة وأصبح كل شيء متاح فيها، وانتقلت هذه المواجهات على أرجاء ولايات السودان لتضرب جذورها على بنية سياسية مليئة بالعداء لتوجس كل أطرافها...
ولأن التوتر قد تصاعد سياسياً بين الطرفين مؤخراً وقام كل طرف بتعزيز مواقعه العسكرية في العاصمة الخرطوم ، بسبب الخلاف بين الطرفين حول الجدول الزمني للانتقال إلى حكم مدني بموجب الاتفاق الإطاري الذي تم التوقيع عليه أواخر العام الماضي، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني ومن يقود المؤسسة العسكرية التي تتمخض عن دمج القوتين، ففي أعقاب الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير في انقلاب عسكري عام 2019، بعد أشهر من الاحتجاجات الجماهرية، تم تشكيل مجلس السيادة وكان المجلس برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد الجيش ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو، والذي أطلق عليه الرئيس المعزول عمر البشير اسم (حمايتي) في أول لقاء به بعد القضاء على الحركات المسلحة في دارفور وكان البشير يقول له أنت ستكون حمايتي، ومنها تدرج اللقب وعرف بين السياسيين ب(حميدتي) ..
وطوال الفترة الانتقالية، ظلت القوتان تعملان بتناسق تام، بل أوكلت لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) مهام في غاية الخطورة، مثل التفاوض باسم القوات المسلحة مع تحالف قوى الحرية والتغيير، والتفاوض مع الحركات المسلحة باسم حكومة السودان، وتوقيع إتفاق سلام جوبا، ومنها إلى رئاسة اللجنة الاقتصادية التي كانت تتولى إعادة تأهيل اقتصاد البلاد.
وأثناء ربيع العلاقة بين الجيش والدعم السريع، سمح رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، الدعم السريع بالتمدد، فازداد عدده من نحو 30 ألفاً ليتجاوز 100 ألف، كما سمح له بالاستيلاء على نصيب الأسد من عقارات حزب المؤتمر الوطني المحلول، ليستخدمها مواقع لقواته، إلى جانب استثماراته في الذهب وغيره، ما جعل منه قوة حقيقية...
وبالعودة لتاريخ قوات الدعم السريع فهي كانت تدار من قبل جهاز المخابرات والأمن الوطني، على الرغم من أنها تخضع لقيادة القوات المسلحة السودانية أثناء العمليات العسكرية، وكان الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) هو قائد قوات الدعم السريع أثناء الأزمة السياسية السودانية 2019، واستخدمت قوات الدعم السريع التي تسيطر على البلاد لقمع المتظاهرين الطالبين برحيل نظام البشير، بالإشتراك مع قوات الأمن الأخرى، وفي عام 2014م أكد حميدتي أن قوات الدعم السريع تعد جزءً من المنظومة العسكرية التابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني المساندة للقوات المسلحة في الحرب ضد المتمردين في دارفور وجنوب كردفان، في نوفمبر 2017، استخدم حميدتي قوات الدعم السريع للسيطرة على مناجم الذهب في منطقة دارفور، مما جعله أحد أغنى الأشخاص في السودان، واستطاع ان يشكل شركة الجنيد التي تعمل على تعدين الذهب والتجارة في السودان.. وينتج السودان بين 95 إلى 100 طن سنوياً من الذهب حسب منشور لوزارة التعدين في السودان، ولكن لا يدخل الخزينة العامة أكثر من 30 طنا، وباقي الكميات يجرى تهريبها إلى الخارج، ويشير مراقبون للوضع الاقتصادي إلى أن السودان يمكنه تحقيق عائدات لا تقل عن 5 مليارات دولار في العام، لو تمكن من السيطرة على موارده من الذهب، وسيكون هذا المبلغ كافياً لتغطية العجز السنوي في البلاد..
وفي الوقت الذي دخلت هذه الحرب ذروتها، لجأت الدول العربية وغيرها من الدول الأجنبية إلى عمليات اجلاء شامل لبعثاتها ورعاياها وهذا مؤشر بأن الحرب مستمرة وتتجه نحو منعطفات يقود السودان للدمار والخراب، وكان العالم ينظر من سيفوز في هذه المعركة لتأييده... ومؤخراً ينشط حديث الوساطات، من خلال الإتفاق على هدنة مزمنة، من أجل وقف الاقتتال الشامل، وإنهاء معاناة المدنيين الخاسر في أي حروب..
حفظ الله السودان أرضاً وانساناً، هذا البلد الذي عشت فيه لسنوات أثناء دراستي في إحدى جامعاته المرموقة، للحصول على الدرجة العليا (دكتوراة الفلسفة)... الرحمة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى، ونسأل المولى تعالى بفرج قريب، والله المستعان...