كنت مستلقية على سريري أتابع آخر مستجدات أخبار العالم كعادتي، وفي تلك الأثناء شد انتباهي سماع أصوات تتعالى بالقرب من نافذتي ليأخذني الفضول لأرى مصدر تلك الأصوات.
أستعنت بالكرسي الذي كان مركونا بجانب سريري لأقف عليه وألقي نظرة من النافذة، وحينها شاهدت أناسًا يسيرون للأمام رويدا رويدا، وهنا كانت المفاجأة الكبرى، كان أخي أبوبكر يسير ضمن المارة!
لم أتمالك نفسي عند رؤيته وتضاربت بداخلي واتقدت كل مشاعر الحنين والشوق.. كنت أود الانتظار قليلا حتى يذهب بعض المارة بجانب نافذتي ومن ثم أنادي عليه، كي لا يراني أو ينتبه لي أحد منهم، ولكنني أدركت حينها بأنني لو انتظرت سيذهب ولم يعد بوسعي اللحاق به.
ناديت عليه بصوت شبه مسموع (أبوبكر.. أبوبكر.. أبوبكر) كان يحرك رأسه يمنة ويسرى ليرى من أين مصدر الصوت، لوحت له بيدي وهمست له بصوت خافت بأن يأتي إلى جانب النافذة.
لا يمكنني أن أصف مدى السعادة التي غمرتني عند رؤيته كنت أكرر عليه كلمات (يا عمري، يا حياتي، يا روحي) وكل كلمات الحب والاشتياق ،وبادلني أيضا هو ذلك الاشتياق.
كعادته لم تفارق الابتسامة محياه، أردت أن أعانقه لأطفئ نار الشوق والحنين المتقد بداخلي منذ زمن، ولكني لم أستطع فشباك النافذة حجبته عني، ولكني لم أيأس فقد حاولت أن أخرج أصبعي من بين فتحات شباك النافذة كي تلمس أصبعه وطلبت منه وتوسلت إليه أن يدخل إلى المنزل، لكنه رفض .. كررت توسلي إليه لكن دون جدوى، نظر إليّ بابتسامة وانصرف من أمامي ومضى للأمام بنفس السبيل الذي كان يسير فيه مع المارة الذين مروا قبله. حاولت الاقتراب أكثر وأكثر من شباك النافذة لأرى آخر خطواته إلى أين سيتجه، وحينها انصدم رأسي بقوة بحديد السرير الذي كنت مستلقية عليه لأفيق من منامي مذعورة أبحث عن أخي وأنادي عليه كي يعود، لكني استوعبت حينها أنني كنت بالمنام. أخذت الهاتف كي أرى الوقت والتاريخ، وتذكرت حين وجدته الثالث من مارس، حينها تذكرت بأن التاريخ يشير إلى الذكرى السنوية الثالثة لمقتل شقيقي كبدي (أبوبكر).
آه كيف تمضي الأيام والسنين، وما زلت أتذكر يوم مقتلك وكأنني ودعتك بالأمس.. ذلك التاريخ المشؤوم الذي أشعل غصة في قلوبنا وإحساسا مؤلما لم ولن تشفه الأيام والسنين وطب الدنيا بأسرها على الرغم من أن الموت حق على كل إنسان إلا أنه الأقسى والأصعب على النفس ولا يبقى لنا سوى تذكر الذكريات التي كانت تجمعنا، فلقد تعلمت من هذا الحزن والوجع أن الحياة بكل أفراحها قد تسقط من عين الإنسان فجأة وفي أي لحظة وتتبدل الأحوال من حال إلى حال، وصدق من قال (ما بين غمضة عين وانتباهتها.. يغير الله من حالٍ إلى حال).
سأخبرك في هذه اللحظة بأن كل الدموع لن تكفي لتروي قصة اشتياقي لك.. وسأخبرك أيضا بأني ما زلت أتخيل أن خبر مقتلك مجرد حلم وأنك ما زلت على قيد الحياة، لا زلت أتذكرك فأبتسم مرة وأبكي ألف مرة ومرة عند تذكر ملامح وجهك في عيني.. سأعترف لك بأنني ما زلت أخصص جزءًا من يومي لك، أبتعد عن ضجة العالم وأتذكر أحاديثك وضحكاتك معي وأبتسم.
أريد أن أعلم كيف هي حياتك تحت الثرى؟ كيف تقضي أوقاتك؟ رغم يقيني بأن رحمة الله ستشملك فلقد لقيت ربك بدمك الطاهر وأنت في ريعان شبابك تناديه بأن يقتص لك من الذي سفك دمك وقطف زهرة شبابك وحرمك من رؤية الأهل والأحباب دون أي ذنب.
لقد رحلت عنا جسدا ولم تفارق قلوبنا وشغاف تفكيرنا لحظة واحدة، كنت الغائب من بيننا والحاضر فينا، فيا ترى إن خرجت من هذا العالم هل سألتقي بك في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ هل سيجمعنا الله بك ذات يوم بين يديه سبحانه وتعالى والحياة الأبدية التي لا فراق بعدها أبدا؟
عندما أتذكر كيف قتلك وإزهاق روحك بتلك الطريقة البشعة الغادرة، وبدون أي ذنب، أتألم بلا ألم، وأبكي بلا صوت، وتشتعل نار في صدري بلا لهب وقودها ذكرى حزينة مفجعة مؤلمة.
آه من غدر الصديق الذي كان يحسبه الأخ والرفيق، خان العهد والميثاق والعيش والملح.
من هنا أعلنها وأمام العالم أجمع بأن دم (أبوبكر محمد صالح الداحمة) لن يذهب هدرا، لن نسامح أو نساوم في دمه أبدًا وسنظل نطالب بالقصاص من القاتل حتى يتم تنفيذ حكم الإعدام وشرع الله، فلكم كما قال سبحانه وتعالى (في القصاص حياة) سنشعل وسائل الإعلام وسنحول قضية مقتله إلى قضية رأي عام، فأي شرع وأي قانون يرضى بأن يُعفى على شخص مذنب مجرم قاتل؟ فالقانون يدين القاتل والشرع كذلك (العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص).
اللهم ارحم أخي واغفر له واجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم عوض شبابه في جنتك واجعله سعيدا بجوارك ضاحكا مستبشرا بجنتك، اللهم اجعله اسعد أهل القبور برحمتك وعوضنا عن فراقه بلقائه في جنتك.. اللعنة على القتلة والمجرمين ولا نامت أعين الجبناء.