رامي الأمين
تقول الحكاية التي ترويها بهية وهبي، الشهيرة بوداد، لحفيدتها أن الموسيقار محمد عبد الوهاب أرسل في طلبها وسألها أن تعيد غناء ألحانه القديمة ووعدها بأنه سيعطيها لاحقًا ألحاناً جديدة خاصة بها. أجابته بأنها تريد اسبوعاً لتفكر ثم تعود إليه بقرارها. حينذاك، تستطرد، قال لها بليغ حمدي: “ما فيش مجنون بقول لعبد الوهاب سيبني أفكر أسبوع، حتفكري في إيه؟”.
الناقد الفني الياس سحّاب يقول إن هذه الرواية إذا صحّت، مُحزنة، وإنها تدلّ على سوء حظ الفنانة المغمورة المظلومة التي لم تأخذ حقها، وصوتها “من أجمل الأصوات التي سمعتها في حياتي” كما يصفه سحّاب. لم يُكتب إذاً لوداد أن تغني من ألحان عبد الوهاب، فيما يشكك ناقدون فنيون آخرون وأبرزهم محمود الزيباوي في هذه الرواية ويقول إنها من “تأليف وتلحين المطربة وداد” التي كانت تتمنى أن يحدث سيناريو كهذا، لكنه في الحقيقة مختلق ومن نسج خيالها ليس إلا.
بمعزل عن دقة الرواية التي تخرج على لسان وداد نفسها في الفيلم الوثائقي “لحظة أيها المجد” (إخراج شيرين أبو شقرا)، فإنها تعبّر عن رغبة طافحة لدى وداد في أن تقول “لا” للرجل أكان موسيقاراً أم زوجاً أو أباً.
فهي لكي تتخلص من سطوة أبيها الذي كان يقف عائقاً في وجه طلبها للشهرة لدرجة أنه دخل مرة إلى ستوديو التصوير وسحبها من شعرها. تزوّجت من عازف القانون الشهير محمد عبده صالح الذي كان يقود فرقة أم كلثوم الموسيقية، وكان شرطها للزواج أن يساعدها لكي تغني وتمثّل. لكنه بدوره أظهر غيرة مرضية عليها فما كان منها إلا أن طلبت الطلاق لترتبط بعبد الجليل وهبي، أحد أهم شعراء الزجل اللبنانيين، وكتب لها الكثير من أغنياتها وأنجبت منه صبياً قبل أن تنفصل عنه لترتبط أخيراً بحب حياتها الموسيقار توفيق الباشا، وهو ارتباط انتهى ايضاً بالفشل والطلاق.
في “لحظة أيها المجد” تقول وداد إن سامي الصيداوي (وهو كاتب وملحن مظلوم بدوره) كان يحب لها أن “تقرص الرجال” على حد تعبيرها. وقد تُرجم ذلك في الأغنيات التي قدماها معاً، والتي تحمل في طيّاتها شحنات من النسوية الأنيقة التي تفرض “توازن رعب” مع الرجل- الحبيب: “بتكن بكن بتجنّ بجنّ حن عليّي بحن جنّ عليي بجن مهما تعمل بعمل مثلك عين بعين وسن بسن”.
في “لحظة أيها المجد” تقول وداد إن سامي الصيداوي كان يحب لها أن “تقرص الرجال” على حد تعبيرها. وقد تُرجم ذلك في الأغنيات التي قدماها معاً، والتي تحمل في طيّاتها شحنات من النسوية الأنيقة التي تفرض “توازن رعب” مع الرجل- الحبيب
“بتندم” هي أغنية نديّة تمجّد الصبر في التعامل مع الرجل- الحبيب وتقارعه في حلبة الحب، بالحب والعاطفة تارة، وبالقسوة والهجران طوراً، فلا تخضع للإيقاع الذي تفرضه الذكورية على الأغنيات الشرقية عموماً.
تأتي أغنيات وداد لتقرص الرجل في ذكوريته وتقرص المرأة لتستفيق من استسلامها لهذه الذكورية. ولا مناص هنا من الوقوف عند ملاحظة جندرية هامة تتعلق بكتابة الأغاني العربية، مع غياب شبه تام للنساء عن هذا المجال كما عن مجال التلحين، ولينحسر دورهن في الغناء.
كما تتضمن استخداماً لأساليب ضغط عاطفية للمساومة والتفاوض والتهديد: “لما بتطلع بالعالي بخليك من القهر تعنّ”. كذلك في “بتندم”(كلمات وألحان الصيداوي) الأغنية الأشهر التي عُرفت بها وداد، تقول: “إن كانو فكرك تقهرني وتعذبني لا تجربني، يكون بعلمك أيوب بيطلع ابني وابن ابني”. وهي أغنية نديّة تمجّد الصبر في التعامل مع الرجل- الحبيب وتقارعه في حلبة الحب، بالحب والعاطفة تارة، وبالقسوة والهجران طوراً، فلا تخضع للإيقاع الذي تفرضه الذكورية على الأغنيات الشرقية عموماً، وخصوصاً في الكلام الذي غالباً ما يصوغه رجل ليُغنى على لسان امرأة، فيجعل منها خاضعة وضعيفة، كما فعل نزار قباني مع نجاة الصغيرة حينما غنت من كلماته (“أيظن” ألحان محمد عبد الوهاب) “سامحته وسألت عن أخباره وبكيت ساعات على كتفيه”، و”كم قلت إني غير عائدة له ورجعت”. وفي أغنية أخرى (“ماذا اقول له” الحان عبد الوهاب): “كيف أهرب منه إنه قدري هل يملك النهر تغييراً لمجراه؟”. أو كما فعل الأخوان الرحباني مع فيروز في “عتاب”: “وما تطلعت هالعين إلا ع حماك”، و”الله بيشهد ما ضحكت مرة لسواك”، كلها نماذج تأتي أغنيات وداد لتناقضها ولتقرص الرجل في ذكوريته وتقرص المرأة لتستفيق من استسلامها لهذه الذكورية. ولا مناص هنا من الوقوف عند ملاحظة جندرية هامة تتعلق بكتابة الأغاني العربية، مع غياب شبه تام للنساء عن هذا المجال كما عن مجال التلحين، ولينحسر دورهن في الغناء.
وربما تكون صفوة هذا النوع من الأغنيات المتمردة على الرجل تلك التي غنتها وداد أيضاً من كلمات وألحان الصيداوي: “على علمي إنك فهمان فهمان وراسك مليان، ليه لما تحكي بالحب بتروّح فهمك ضيعان؟ يا ضيعان فهمك”. وتخلص في هذه الأغنية إلى معادلة ذهبية حاسمة: “بدك تهوانا منهواك، بدك تنسانا مننساك، بتاخذ قلب بتعطي قلب ولّى عهد الاستملاك وتغيّر وضع الإنسان… يا ضيعان فهمك”.
في “حيرت قلبي معاك” تغني أم كلثوم من كلمات أحمد رامي: “بدّي اشكيلك من نار حبي، بدّي احكيلك عاللي في قلبي، واقولك عاللي سهرني واقولك عاللي بكاني واصورلك ضنى روحي وعزّة نفسي مانعاني”. قد تكون هذه الجملة في أغنيات أم كلثوم الأكثر شدّة في التعامل مع الضعف الناتج عن انعدام التوازن العاطفي بين الرجل والمرأة في الأغاني الغرامية التي تغنيها النساء العربيات بشكل عام. عزّة نفس أم كلثوم تمنعها من التعبير عن مشاعرها لحبيبها، طبعاً مع الإشادة بذكاء أحمد رامي الذي يقول كل ما في قلب الستّ، ثم يتمنّع بعزّة ووقار. لكن سامي صيداوي بلسان وداد، يذهب أبعد، إذ يدمج، في الأغنية الواحدة، بين التعبير عن الحب الرقيق وبين القوة المتمثلة بالقدرة على قول “لا” كبيرة في وجه السلطة الذكورية التي يعززها الحبّ الذي يضعف المرأة العاطفية، ويعطي الرجل سطوة إضافية مزيدة على سطوته الإجتماعية والثقافية:”يا حبيّب شو بدك تندم”!