كتب / عبدالعزيز الحمزة
كان حضور فعاليات اليوم العالمي للغة العربية، التي أقامتها جامعة أبين ممثّلة بـ كلية اللغات والترجمة، تجربة تتجاوز حدود المشاركة الرسمية إلى مساحة أعمق من التأمل والانبهار. فقد كشفت الندوة التي حملت عنوان:
«اللغة العربية والهوية اللغوية في زمن الذكاء الاصطناعي: تحديات وفرص»
عن رغبة صادقة في فتح آفاق جديدة أمام اللغة العربية، وإعادتها إلى موقعها الطبيعي في صناعة التاريخ، وتشكيل الأجيال، وصون الوعي الثقافي للأمة.
لم يكن الحدث مجرد احتفالية، بل مشهداً أكاديميًا متكاملًا، يعكس حيوية جامعة أبين ونضجها المتنامي. وقد بدا واضحًا الجهد الكبير الذي تقدّمه كلية اللغات والترجمة بقيادة عميدها الأستاذ الدكتور محمد عبدربه أحمد، ذلك الجهد الذي ينهض باللغة من داخل الفصول إلى فضاء البحث العلمي والمسؤولية الثقافية.
ولم يكن هذا ليكون لولا الرؤية العميقة والدعم المستمر الذي يقدّمه رئيس الجامعة، الأستاذ الدكتور محمود أحمد الميسري، الذي استطاع أن يقدّم نموذجًا جامعيًا راقيًا، يوازن بين الأصالة والحداثة، ويضع الجامعة في مسار أكاديمي يستحق الإشادة.
كما لا يمكن في هذا السياق إغفال الدور المحوري الذي لعبه محافظ محافظة أبين، اللواء أبو بكر حسين سالم، الذي كان منذ اللحظة الأولى سندًا حقيقيًا لجامعة أبين، ومدافعًا عن حضورها الأكاديمي، ومؤمنًا برسالتها العلمية في خدمة المجتمع. لقد شكّل دعمه رافعة أساسية أتاحت للجامعة أن تظهر بهذا المظهر المشرّف.
سيلفيا مارشيوني:
واحدة من أجمل لحظات الندوة كانت مشاركة الدكتورة سيلفيا مارشيوني من اتحاد الجامعات المتوسطية – إيطاليا، التي تحدثت بصدق وإحساس عن قصتها مع اللغة العربية.
كانت شهادتها مؤثرة؛ فهي باحثة غربية وقعت في حب العربية لا لأنها مادة أكاديمية، بل لأنها – كما قالت – لغةٌ حيّة، دافئة، تحمل في داخلها نورًا ومعنى يلامسان الروح.
تحدثت عن كيف أعادت اللغة تشكيل علاقتها بالثقافة، وكيف اكتشفت من خلالها تاريخًا ممتدًا، وذاكرة إنسانية عميقة، جعلتها تشعر أنها أمام لغة لم تُخلق لتكون محلية، بل كونية بحضورها، عالمية برسالتها، إنسانية بعمقها.
كانت مشاركتها شهادة رائعة على أن العربية ما تزال قادرة على الإلهام وقادرة على العبور إلى قلوب غير الناطقين بها.
الندوة كلّها كانت دعوة لاستعادة اليقين القديم:
أن العربية ليست لغة قوم، بل لغة حضارة.
لغة صنعت أمةً يوم صار القرآن معجزتها الكبرى، فجمعت بين العرب والمسلمين تحت هوية واحدة رغم اختلاف الألوان والأعراق.
لقد اتفق الحاضرون على أن مستقبل الأمة مرتبط بمستقبل لغتها؛ وأن حماية العربية اليوم لم تعد مهمة ثقافية فحسب، بل مشروع وجودي يحفظ الهوية في زمن تتصارع فيه اللغات وتتنافس فيه التقنيات.
خرجت من الندوة بشعور أن جامعة أبين لم تُقم فعالية فحسب، بل قدّمت رسالة:
أن هذه اللغة التي حملت نور السماء إلى الأرض ما تزال قادرة على أن تكتب مستقبلًا جديدًا، وأن جيلاً يُربَّى على العربية سيحمل وعيًا مختلفًا، أشد ثباتًا، وأعمق جذورًا.
لقد كانت الندوة فتحًا معرفيًا، وتجديدًا للعهد مع لغة تحفظ تاريخنا، وتشكل وعينا، وتمنحنا المشترك الذي نعود إليه كلما ضاقت بنا الطرق.
إنها خطوة أولى لكنها خطوة تقول إن الطريق نحو نهضة لغوية وثقافية قد بدأ بالفعل.