تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2023 تحولات سياسية وأمنية متسارعة، انعكست بشكل مباشر على مستقبل العديد من القضايا الإقليمية، بما في ذلك قضية شعب الجنوب. فمع تصاعد التوترات في غزة، وتوسع النفوذ الإيراني، وازدياد التصعيد الحوثي في البحر الأحمر، والعقوبات الأمريكية المفروضة على جماعة الحوثي وتصنيفها كجماعة إرهابية، إلى جانب قرار نقل البنوك التجارية من صنعاء إلى العاصمة عدن. وجدت القيادة الجنوبية نفسها أمام تحديات كبرى، لكنها في الوقت ذاته تواجه فرصًا لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي.
وبالتزامن مع هذه التحولات، نظمت الأمانة العامة لهيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، ممثلة بالدائرة السياسية وبالتنسيق دائرة المرأة والطفل، أمسية رمضانية في 23 مارس 2025 بالعاصمة عدن، تحت عنوان "التحولات السياسية في المنطقة وانعكاساتها على قضية شعب الجنوب"، بمشاركة عدد من الشخصيات السياسية والاقتصادية والأكاديمية والإعلامية.
-وعي سياسي واستراتيجي
أكدت الأستاذة منى علي أحمد، نائب رئيس الدائرة السياسية بالامانة العامة للمجلس الانتقالي الجنوبي، في كلمتها الافتتاحية أن هذه الأمسية جاءت في مرحلة دقيقة يمر بها الجنوب والمنطقة ككل، مشيرة إلى أن كل رأي يُطرح يشكل إضافة مهمة تخدم قضية شعب الجنوب. وشددت على أن أبناء الجنوب يمتلكون من الكفاءات والقدرات القيادية ما يمكنهم من التصدي للتحديات والاستمرار في الدفاع عن تطلعات شعب الجنوب.
أما الأستاذة ياسمين مساعد حميد، رئيس دائرة المرأة والطفل، فأكدت أن المتغيرات السياسية الراهنة تحمل فرصًا يجب استثمارها بحكمة، مضيفة أن الموقع الاستراتيجي للجنوب يجعله محوريًا في حسابات القوى الإقليمية والدولية.
-تحليل التحولات السياسية وتأثيراتها على الجنوب
شهدت الأمسية تقديم أوراق عمل تحليلية تناولت التحولات السياسية والاقتصادية في المنطقة وانعكاساتها على الجنوب، كان أبرزها:
ورقة عمل "التحولات السياسية في المنطقة وانعكاساتها على قضية شعب الجنوب"، قدمها المحلل السياسي الأستاذ محمد عبدالله الموس الجفري، وتناولت التحديات التي فرضها التصعيد الإقليمي والفرص المتاحة أمام القيادة الجنوبية.
وكانت ورقة العمل الثانية تحمل عنوان "التغيرات الإقليمية واستجابة المجلس الانتقالي"، قدمها الأستاذ يعقوب السفياني، مدير مركز "سوث 24"، حيث ركز على تفاعل المجلس مع المستجدات السياسية، خصوصًا تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر.
وقدم د. محمد جمال الشعيبي، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة عدن، ورقة عمل "التداعيات الاقتصادية للعقوبات الأمريكية على الحوثيين ونقل البنوك إلى عدن"، وأوضح فيها أهمية تعزيز الاستقرار الاقتصادي لمواجهة التحديات الإقليمية.
وتضمنت أوراق العمل الآتي:
-انعكاسات التحولات الإقليمية على الجنوب العربي
1️- تصاعد الصراع في غزة وتأثيره على موازين القوى
أدى التصعيد في غزة منذ أكتوبر 2023 إلى إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، حيث استغلت جماعة الحوثي الأحداث لتوسيع عملياتها في البحر الأحمر، مما استدعى تدخلًا أمريكيًا وأوروبيًا للحد من نفوذها. بالمقابل، حافظ المجلس الانتقالي الجنوبي على موقف متزن، مؤكدًا دعمه للقضية الفلسطينية، لكنه في الوقت ذاته رفض محاولات الحوثيين استغلال الوضع لصالحهم.
2️- تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر وأثره على الجنوب
تزامنًا مع تصاعد الحرب في غزة، كثفت ميليشيا الحوثي هجماتها على السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر، مما أدى إلى اضطراب في حركة التجارة العالمية. هذا التصعيد دفع المجلس الانتقالي الجنوبي إلى المطالبة بدعم دولي لتعزيز قدرات خفر السواحل الجنوبي، في خطوة تهدف إلى تثبيت دوره في تأمين الملاحة البحرية.
3️-التحولات في المحور الإيراني وتراجع نفوذ الحوثيين
شهد محور إيران الإقليمي انتكاسات كبيرة، أبرزها:
-ضربات موجهة لحزب الله اللبناني، مما أضعف نفوذه داخليًا.
-تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بعد انسحاب النظام السوري إلى روسيا في ديسمبر 2024.
-إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة في يناير 2025. وقد رحب المجلس الانتقالي الجنوبي بهذا التصنيف، معتبرًا أنه خطوة ضرورية لتقويض أنشطة الحوثيين الإرهابية.
4️-الفرص الاستراتيجية أمام الجنوب العربي
مع تصاعد التهديدات الإقليمية، يجد الجنوب نفسه أمام فرص لتعزيز مكانته الاستراتيجية، أبرزها:
-تعزيز دوره كشريك أمني في تأمين باب المندب والبحر الأحمر، وهو ما يتطلب دعمًا دوليًا لقواته البحرية.
-استغلال الاهتمام الدولي بتهديدات الحوثيين لكسب اعتراف أوسع بدوره السياسي والعسكري.
-تعزيز الشراكات الإقليمية والدولية لضمان دعم أكبر للمطالب الجنوبية.
-التعامل بحكمة مع الأزمات الاقتصادية، مثل نقل البنوك التجارية إلى عدن، لضمان استقرار مالي واقتصادي في الجنوب.
التداعيات الاقتصادية والمالية للعقوبات الأمريكية على الحوثيين
1- تقليص مصادر التمويل:
تستهدف العقوبات الأمريكية الموارد المالية للحوثيين، بما في ذلك التحويلات المالية والأنشطة التجارية غير المشروعة، مما يحد من قدرتهم على تمويل عملياتهم العسكرية.
2- تجفيف منابع التمويل:
تعتمد الجماعة على عدة مصادر مالية، أبرزها الضرائب والجبايات على السلع والخدمات، وتهريب النفط والأسلحة، والدعم الإيراني. فرض العقوبات يسهم في تقليص هذه الموارد بشكل حاد.
3- فرض حصار مالي واقتصادي:
العقوبات تمنع الشركات والمؤسسات المالية من التعامل مع الحوثيين، مما يعزلهم اقتصادياً ويجعلهم غير قادرين على استخدام النظام المصرفي الدولي.
4- خلق عزلة دولية:
تزايد العقوبات الأمريكية دفع البنوك التجارية إلى نقل مراكزها إلى عدن، مما يعزز الضغوط الاقتصادية على الحوثيين، ويدفع نحو مزيد من العزلة الدولية للجماعة.
-تداعيات نقل البنوك التجارية إلى عدن
1- تعزيز العلاقات المالية مع المؤسسات الدولية:
يسهم خروج البنوك من العاصمة اليمنية صنعاء في استعادة الحكومة اليمنية لعلاقاتها مع المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مما يفتح المجال أمام تدفق الاستثمارات والمساعدات.
2- تأثير على سعر الصرف:
من المتوقع أن يؤثر انتقال البنوك إلى العاصمة عدن على قيمة الريال اليمني، حيث ستحتاج البنوك إلى تعزيز احتياطاتها من العملات الأجنبية، مما قد يؤدي إلى استقرار أو تحسن سعر الصرف.
3- تعزيز دور البنك المركزي في عدن:
سيتمكن البنك المركزي من فرض رقابة أفضل على القطاع المصرفي، مما يساعد في تقليل المضاربة العشوائية وتحقيق استقرار نقدي أكبر.
4- تعزيز دور عدن كمركز مالي واقتصادي:
يؤدي انتقال البنوك إلى زيادة الاستثمارات المحلية والدولية في عدن، مما ينعكس إيجاباً على النشاط الاقتصادي في المدينة.
5- تأثير على الأسواق والنشاط الاقتصادي:
قد يسهم نقل البنوك إلى عدن في تعزيز ثقة المستثمرين والتجار، مما يدفع نحو إعادة هيكلة المشهد المالي والتجاري في البلاد.
6- تحسين العمليات التجارية والمصرفية:
سيتمكن التجار والمستوردون من تنفيذ معاملاتهم بسهولة عبر البنوك في عدن، مما يسهم في تحسين تدفق البضائع واستقرار أسعار السلع.
7- تحسين الخدمات المصرفية:
يسهم الانتقال في تعزيز البنية التحتية المصرفية، وتحسين جودة الخدمات المالية، مما يقلل من الاعتماد على السوق السوداء ويعزز الشفافية المالية.
8- تأثير على حياة المواطنين:
يمكن أن يسهم نقل البنوك في تحسين صرف الرواتب والمعاشات، مما يخفف من الأعباء المعيشية على المواطنين.
9- تسهيل إجراءات تحويل حوالات المغتربين:
سيؤدي الانتقال إلى تسهيل استقبال تحويلات المغتربين عبر قنوات مصرفية أكثر استقراراً، مما يحسن المستوى المعيشي للأسر التي تعتمد على هذه الحوالات.
-تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي لمواجهة التحديات
في ظل هذه التحولات، قام الرئيس القائد عيدروس بن قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، بعدة خطوات استراتيجية:
-زيارات ميدانية إلى جزيرة ميون وسقطرى، لتأكيد أهمية هذه المواقع الاستراتيجية في المعادلة الأمنية الإقليمية.
-التواصل مع القوى الدولية لضمان شراكات أمنية واقتصادية طويلة الأمد.
-تعزيز التواجد العسكري الجنوبي في المناطق الساحلية لمواجهة أي تهديدات محتملة من الحوثيين أو الجماعات الإرهابية.
-السيناريوهات المستقبلية للجنوب في ظل التحولات الإقليمية
مع استمرار التحولات السياسية في المنطقة، يمكن توقع عدة سيناريوهات:
1️- تصعيد عسكري أوسع ضد الحوثيين، سواء من خلال تكثيف الضربات الجوية أو عبر عمليات عسكرية برية في مناطق استراتيجية.
2️- إمكانية الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في اليمن، ما يتطلب من المجلس الانتقالي الاستعداد لمفاوضات معقدة مع القوى الشمالية.
3️- تعزيز الجنوب لدوره في تأمين الملاحة البحرية، وهو ما قد يقود إلى اعتراف دولي أكبر بالمطالب الجنوبية.
في ظل المتغيرات الإقليمية المتسارعة، قرار العقوبات الأمريكية على الحوثيين ونقل البنوك إلى العاصمة عدن يقف الجنوب أمام مرحلة حاسمة تتطلب استجابة سياسية وأمنية مرنة. ومع تزايد الضغوط الدولية على الحوثيين وتغير موازين القوى الإقليمية، بات من الضروري أن يركز المجلس الانتقالي الجنوبي على تعزيز التحالفات الدولية، وتأمين المصالح الاقتصادية، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني، وتنفيذ سياسات مالية فعالة لضمان استدامة هذه التغيرات الإيجابية، وتثبيت دوره كلاعب رئيسي في معادلة الأمن والاستقرار في المنطقة.
إن التحولات الحالية تمثل تحديات وفرصًا في آنٍ واحد، ويبقى وعي القيادة الجنوبية وقدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية صائبة هو المفتاح لضمان مستقبل مستقر ومزدهر للجنوب العربي.