صالح علي فدامة والانتهازية السياسية في اليمن
تاريخ النشر: الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
- الساعة:20:31:35 - الناقد برس/كتب/ الشيخ لحمر علي لسود
في التاريخ اليمني، الذي يبدو أحيانًا أشبه بمسلسل درامي لا ينتهي، نتذكر اسم "صالح علي فدامة"، وهو شخصية محورية في واحدة من أغرب الحكايات السياسية اليمنية، فدامة الذماري الذي بدأ حياته بطلاً قومياً، داعماً للجمهورية بعد ثورة ٢٦ سبتمبر، انتهى كـ"منحاز استراتيجي" بسبب الضخ المالي من أحدى الدول الاقليمية، على طريقة "لا تسبح ضد التيار، خاصة إذا كان التيار من ذهب!".
ولد فدامة في محافظة ذمار، ولكنه لم يكن ليكتفي بجغرافيا جبلية محدودة. فجأة، وجدناه في شمال إفريقيا، وربما في ليبيا، وكأنه كان يبحث عن حرب عالمية ليدخلها. نحن لا نعرف تحديداً كيف انتهى به الحال هناك، ولكننا متأكدون أنه كان مستعداً للمغامرة أينما دعت الحاجة... أو القذيفة.
عاد فدامة إلى مصر، وهناك قابل الزعيم جمال عبدالناصر. تصور فدامة أنه عثر على نصير للقضية الجمهورية، وناصر، بدوره، وجد فيه أداة مناسبة لإيصال رسائل القاهرة إلى صنعاء. عاد فدامة إلى اليمن حاملًا رسالة ناصرية، وبدأ في التنقل بين قادة الجمهوريين والمصريين في صنعاء. لم يتوقف عند ذلك؛ بل أصبح صوتاً إعلامياً قوياً ببرنامجه الإذاعي الذي كان يحمل اسمه، ربما لأنه وجد أن "صالح علي فدامة" اسمٌ جذاب بما يكفي ليصبح عنواناً لثورة إذاعية.
لكن المبادئ لا تصمد طويلاً أمام الإغراءات المالية، وفدامة لم يكن استثناءً. مع مرور الوقت، تغيرت النغمة الجمهورية في إذاعته إلى صمت، ووجدناه يتحول إلى صف الملكيين، والسبب: ضخ مالي سخي من (....). يبدو أن فدامة قرر أن "الجمهورية جميلة، ولكن الريالات أجمل".
الغريب في القصة أن فدامة، مثل كثيرين في تلك الفترة، أدرك أن الصراع بين الملكيين والجمهوريين أشبه بخلاف عائلي بين أبناء العم. وكأي عاقل في مأدبة عائلية، انضم فدامة إلى من يدفع أكثر.
في النهاية، وبينما كان الملكيون يواجهون ضغوط الجمهوريين، جاء اتفاق سياسي بريطاني-سعودي لترحيل الملكيين من صنعاء. خرج فدامة مع قافلة الرحيل التي شملت التنقل عبر عدن، في الجنوب، حتى وصولهم إلى مأرب والجوف باليمن. ولكن فدامة، الذي أجاد لعب الأدوار، كان قد أثار اهتمام الأجهزة الاستخباراتية في الجنوب، وخاصة الجبهة القومية، التي راقبته عن كثب.
لم يدم الأمر طويلاً، حيث قرر فدائيون من الجبهة القومية أن ينهوه بعملية اغتيال في ولاية مودية. وهكذا انتهت قصة صالح علي فدامة، الرجل الذي كان "جمهورياً بالمايكروفون، ملكياً بالمحفظة، وشهيداً في السجلات التاريخية".
قصة صالح علي فدامة ليست سوى انعكاس للفوضى السياسية التي كانت تعصف باليمن في تلك الفترة. من بطل قومي إلى متقلب في المواقف، ومن جمهوريات الحلم إلى ريالات الواقع، يذكرنا فدامة أن التاريخ ليس سوى مزيج ساخر من الطموحات والمصالح... وبعض الريالات.
قصة صالح علي فدامة تقدم إسقاطاً لافتاً على واقع اليوم، حيث نشهد تناقضات مشابهة بين شخصيات سياسية يمنية شمالية تتنقل بمهارة بين معسكر التحالف العربي بقيادة السعودية والمعسكر الإيراني. يمكن قراءة هذا المشهد الحديث كنسخة محدثة من الانتهازية السياسية التي ميزت عقوداً من التحالفات المتقلبة في اليمن.
وكما غير فدامة ولاءه بين الجمهورية والملكية بسبب الدعم المالي، نجد اليوم شخصيات يمنية تنتهج نفس النهج. يعلن البعض الولاء للتحالف العربي صباحاً، ويعقدون صفقات سرية مع المعسكر الإيراني مساءً، مما يجعل الولاء مرهوناً بالظرف والجهة الأكثر سخاءً.
تماماً كما كان فدامة صوتاً إعلامياً في صف الجمهورية قبل أن يتحول إلى الملكية، نجد مسؤولين يمنيين يصرحون علناً بدعم أحد الطرفين، بينما يعملون بهدوء مع الطرف الآخر لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية.
كما وصف فدامة الصراع بين الملكيين والجمهوريين بأنه خلاف بين أبناء العم، فإن اليوم يتم تصوير النزاع بين الأطراف اليمنية وكأنه خلاف داخلي، بينما تتحول هذه الخلافات إلى سوق مفتوحة للمزايدة السياسية بين الأطراف الإقليمية.
يمكن تلخيص هذا المشهد في أن كثيراً من القيادات السياسية اليمنية تلعب دور "وسطاء نفوذ"، تماماً كما فعل فدامة. هذه القيادات، بدلاً من الالتزام بخط وطني واضح، تجد نفسها تجيد التنقل بين المحاور، ليس بناءً على قناعات وطنية، بل انطلاقاً من حسابات ضيقة: التمويل، النفوذ الشخصي، أو حتى الضمانات المستقبلية.
غياب مشروع وطني جامع يترك المجال مفتوحاً أمام الشخصيات السياسية لتبني استراتيجيات انتهازية، حيث يستخدم "المال السياسي" لجذب حلفاء داخل اليمن، مما يشجع هذا النوع من الولاءات المزدوجة.
لا شك أن هناك أزمة في الولاء والقيادة باليمن، القيادات التي تحاول الجمع بين ولاءاتها للتحالف العربي ولإيران تشبه صالح علي فدامة، الذي انتهت به تقلباته السياسية بيد فدائيين أنهوا حياته. وهذا يعكس درسا واضحا: السياسة بلا مبادئ تُعرّي صاحبها أمام الجميع، وقد تجعل نهايته بيد أحد المعسكرين الذين كان يتلاعب بهما.