أليس الرسّام أو النحّات شاعراً في العمق، ما دام الاشتغال لديهما يرتكز على إظهار ما تخفيه الأشياء، والتعبير عنها بشكل غير مألوف يُبيّن حقيقتها الخالصة.
أمران اثنان حدّدا صفة الشاعر لدى الفنان الأشهر خلال القرن العشرين، بابلو بيكاسو، الذي ما تزال تُحَفه الفنية تتصدّر قائمة المبيعات العالمية، والذي في مقام ثان، وهو الأهم، يتميّز فنّه بإبداعية خالصة من جهة، والالتزام الكامل بقضايا الإنسان من جهة ثانية.
الأمر الأوّل هو مخالطته للشعراء الكبار منذ مغادرته إلى باريس في أول سنوات شبابه، قادماً من برشلونة حيث أقام لبعض الوقت، هو الفتى الأندلسي الذي رأى النور في مدينة مالقا، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
من بين هؤلاء الشعراء الكبار، ماكس جاكوب، وبول إيلوار، وجان كوكتو، وجرترود ستاين، والمبدع الساحر كيوم أبولينير، الذي كان أوّل من عرّف به، وكتب عنه ودافع عن ثورته في مجال الفن التشكيلي، بتفكيكه للتشخيصية رأساً على عقب.
الأمر الثاني هو ببساطة كتابته للشعر منذ البداية، تحت تأثير هذه الرفقة الشعرية المؤسسة لإبداع القرن العشرين، إلا أن قصائده الأولى التي ستُعرِّف به كشاعر، تعود إلى سنة 1935، حيث عاش حياة بوهيمية، بعيداً عن مَشغله الفني، بين امرأتين، زوجته في تلك الفترة التي فرضت عليه الطلاق، وأبعدته عن مسكنه، و"موديل" فني وصديقة، ارتبط معها بعلاقة حب أسفرت عن مولود.
هذه الظروف مجتمعة جعلته يَنظُم الشعر بشكل كامل، وينشره على الملأ، كما لو أن ممارسة الرسم والنحت كانت تخفي، أو تحول دونه وقرض الشعر. فالمُعطى الشعري لدى الفنان يطفر بوضوح في أعماله الصباغية، ويكفي التأمل في لوحته الشهيرة "جارنيكا" التي توثّق بفنية سامية مأساة الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، فضلاً عن توظيفه للكاليجرافيا والحروف والرموز في رسوماته.
وقد سبق للرسام والشاعر أن صرّح، كما جاء في كتاب "الحرب والسلام" للكاتب كلود روا، أنه لن يكون رساماً لو كان صينياً، بل كاتباً يكتب رسوماته. وذلك في إشارة إلى فن الحروفية الصيني.
شعر يكمل اللوحة :
أما حين صار شاعراً خالصاً، فقد أظهرت قصائده، وخصوصاً النثرية منها، ما لم تبح به لوحاته. وأوردت في هذا الإطار الورقة التقديمية لمعرض "بيكاسو شاعراً" بباريس، مقولة له مفادها "أنه في آخر الأمر، الفنون واحدة. يمكننا أن نرسم لوحة بالكلمات، كما نستطيع أن نرسم الأحاسيس في قصيدة."
هكذا كتب بيكاسو ما يناهز 340 قصيدة بين 1935 و1959، فضلاً عن مسرحيات هي عبارة عن قصائد طويلة، "الرغبة التي قُبِض عليها من الذيل"، في جانبها الهذياني والتجريبي المجنون على ما يبدو، قطعة تتمتّع بلغة شعرية وبصرية قوية للغاية.
كما كتب "الفتيات الأربع الصغيرات"، وركّز على استخدام شكل القصيدة الدرامية؛ وأخيراً مسرحية "دفن الكونت دورغاز"، الذي أخذ عنوانها من لوحة شهيرة رسمها لو غريكو، وهي قصيدة طويلة سريالية نُشرت في برشلونة عام 1970.
كتب بيكاسو قصائده كلها باللغتين الفرنسية والإسبانية، مع حضور أكثر للإسبانية، ومن خلال استعمالهما معاً في النص الواحد أحياناً. ونُشرت أفضلها والجيدة منها في كتاب أصدرته دار نشر "لوشيرش ميدي"، مع تقديم للمختصّة في تاريخ الفن، أندرولا ميكائيل.
ويتبدّى للوهلة الأولى، العمل الجبار الذي كان وراء إبداع هذه القصائد، ومن أوحى بها، وكيف دبّجها، وعلى ماذا كُتبت، فهي موسومة بتوخي حرية في الكتابة لا تراعي الأشكال الكلاسيكية العمودية دوماً، ولا تتهيّب من الاستفادة من الرسم وما يمليه.
كتابة نَمَشية :
كلمات في بياض شاسع، جمل شعرية لا تؤمن بعلامات الترقيم ولا بالانسيابية؛ كتابة نَمَشية ذبابية بحسب التعبير الفرنسي الشائع، على أسناد متنوّعة: دفاتر صغيرة، أوراق المفكّرات، المظاريف، المساحات البيضاء في الجرائد، أوراق صحية، وورق الرسم الياباني المُقوّى، الذي اشتغل عليه كثيراً كتابةً ثم رسماً.
كان بيكاسو يمنح هذه الكتابات مشهداً بصرياً خاصاً، يُحيل إلى إبداعية شكلية مقصودة، تُزاوج بين الرسومات والتخطيطات والأبيات الشعرية، وذلك بكثرة التصحيحات التي تطالها، واستعمال أقلام ملوّنة حمراء وزرقاء وخضراء.
والمثير للانتباه، أن بيكاسو كان يكتب القصيدة مرّات عدّة، على هذه الأسناد المختلفة، مضيفاً أو حاذفاً كلمات وجملاً، ما يمنحها "حالات" عدّة تُنبئ بعملية كتابة ممتدّة في الزمن، وليست رهينة اللحظة أو تحت فورة إلهام عابر.
وحلّلت أندرولا ميكائيل بالتفصيل إحدى هذه القصائد التي تمّ تطويرها في تسع عشرة حالة متتالية. ويظهر فيها اشتغال يؤدي إلى انفجارها من الداخل. كتابة يمكن وصفها بأنها "جُذمور" (ذات جذور متعددة)، أي أنها تتشعّب وهي تتقدّم. يخلق بيكاسو عملاً مفتوحاً على قراءات متعدّدة، بما هي كتابة تُراهن على الصيرورة.
تتميّز كتابات بيكاسو الشعرية بكونها ليست مُثلاً اجتماعية، أو لها علاقة بالمحيط الذي كان يعيش فيه، بل هي صدى لأحواله العاطفية، ولما يثير عواطفه في علاقاته الشخصية مع النساء، مع ذكريات طفولته البعيدة.
هي من حيث الشكل، متأثّرة بالباروك الإسباني، أي الأدب الإسباني ما بعد عصر النهضة، ومتأثّرة بقصائد الشاعر الفرنسي ستيفان مالارمي، والكاتب ألفريد جاري، كما تأثّرت بالمدرستين الأدبيتين والفنيتين: الدادئية والسريالية، اللتين ظهرتا في الفترة نفسها، التي بدأ فيها بيكاسو مشواره الفني، أي في العَقدين الأوّلين من القرن العشرين.
وليس غريباً أن نجد آثارهما في ما أبدعه، حول موضوعات تتكرّر باستمرار، تتناول الحب، الإثارة الحِسّية، مصارعة الثيران، التراث الغنائي والرقص الشعبي، التضحية، الطبخ. وهي في الغالب لها علاقة مباشرة مع الأندلس، أندلس الطفولة التي لم يزرها أبداً بعد سنة 1933، هو الذي توفي سنة 1973. وبالتالي عوّض الشعر لديه الجغرافيا النائية.
ثم هناك موضوعات أخرى هي حاضرة باستمرار أيضاً، وتخصّ أولاً الفن الصباغي كما هو مُنتظر من لدن مُبدع شُغله الأوّل الرسم. يبدو ذلك ابتداء من الألوان التي يذكرها في خضم القصيد، ويمنحها تجسيداً حياً، فتحرّك الأشياء وتلبس لبوس الإنسان أو الأشياء، ولا تكتفي بإعطائها تميّزاً سطحياً.
هي فاعلة ومؤثرة، كما هو ملاحظ في القصائد أسفله. ثم هناك مُعطى فريد يتعلق بالتوظيف اللافت للانتباه لثيمة الزمن والتأكيد عليه، من خلال تأريخ القصائد وتدوين يوم كتابتها أو يوم الانتهاء منها، بل وهذا جديد ومُستجد، عبر منح عناوين زمنية للقصائد، فضلاً عن استعمال كلمات من قبيل الساعات والتوقيت.
كل ذلك يطرح السؤال حول هذا الهوس الجميل بالزمنية، خاصة وأن الزمن لا يهتم بالماضي ولا بالمستقبل. قصائد الهٌنَا والآن. وترى أندرولا ميكائيل أنه بالنسبة لبيكاسو "هي أفضل طريقة لترك آثار أعماله للأجيال القادمة، التي تصبح بعد ذلك وثائق تاريخية تسمح لنا بمتابعة عمليته الإبداعية في حركيتها".
شعر مرادف للرسم :
يتّضح بأن الفنان بابلو بيكاسو، لم يُعلِن نفسه شاعراً ليعوِّض الرسام فيه، ولا لكي يُكَمّله أو يُكَمّل ما ينقصه. لم تكن هناك ازدواجية ما. بل كان الشعر جنساً أدبياً مفكّراً فيه وإرادياً. كان رساماً وشاعراً، حتى وإن طغت الصفة الأولى على الثانية طيلة فترة طويلة.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن الاعتناء كان متبادلاً بينهما. وقد سبق لمؤسس السريالية الشاعر أندري بروتون الذي كتب عن شعر بيكاسو، أن قال "في ثنايا هذا الأخير يتردّد صدى نغمة صوته الداخلي، وينكشف عمق كيانه". أي بكل بساطة كان ضرورة وحاجة ملحّة لا بد أن تظهر في شكل إبداعي غير الرسم، يندمج فيها الهم الشخصي اليومي العادي مع القضايا الإنسانية الكبرى.
قصيدة 14 ديسمبر 1935 :
على الظهر الضخم لشريحة
من فاكهةِ البطيخ الملتهب شجرة
قِطَعُ وردة
طاولة للضحك
تحت تهديد الجَناح الذي يٌضَيِّقُ المسافة من أجل
لذّة رؤية الخلاص بين هذه
الأسنان غيرَ مبالٍ بضجره لجُزءِ
عُشبٍ
بُرعُمَا الكرَز الصغيرين
اللذان سقطا أسفل سافلين
بقيا يُقبِّلان بعضهما البعض لمدة يومين أو ثلاثة أيام
وقد أغضبتهما
دموع الفتاة الصغيرة