كتب / معاذ نعمان العواضي
كانت أخلاق العرب في الجاهليّة أفضل بكثير من أخلاقهم في الإسلام. ويمكن ترجيح ذلك لأنهم اختلطوا بأجناس أخرى من البشر فاختلطت عاداتهم بعادات غيرهم. يُقال أن أراجلٌ من بني أسد قدموا لأمرؤ القيس بعد مقتل أبيه، فاستقبلهم وأحسن ضيافتهم، رغم أنّهم قبيلة قاتِل أبيه، وعرضوا عليه ثلاثة بدائل عن الحرب، الأولى إن يختار أشرفهم وأعلاهم منزلةً فيقتله بأبيه، أو أن يجمعوا له أموالهم ونوقهم فيأخذها فداءً، أو ينتظرهم حتى تضع الحوامل ويستعدوا للحرب، وبطبيعة الحال اختار الحرب مع انتظار أن تضع الحوامل حتى لا يكون سببًا في عطب الأجنة في بطون أمهاتها. (الشّهامة بمعناها الحرفي ) القصّة تستمر لمستوى أعلى من الشهامة والرجولة. يجيبهم أمرؤ القيس بما معناه أن بنو الأسد ستشهد طلائع كِندة وهي تحمل في القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا (بمعنى الدم المتجمد). فيجيب عليه أحد رجالات بني الأسد ببيت شعري يقول ما معناه أنّك يا امرؤ القيس ستستثقل الموت الذي ستمطره عليك كتائب قبيلة بني الأسد. فيقول امرؤ القيس أنّه لن يستثقله وإنما يستعذبه وبأنهم سيرون في دجى الحرب فرسان كنده وكتائب حمير. ويضيف -ركزوا هنا- ما كان ينبغي عليّ قول هذا إذ كنت نازلًا في ربعي -بمعنى منزلي- ومتحرمًا بذمامي، ولكنّك قلت فأجبت. (عندما تجتمع المروءة والشرف) يعني حتى رده على ضيوفه اللي هم قتلة أبيه يعتبرها عيب واستنقاص منه وعذره إنه ( ما كان منّي، هو ردًا على كلامك وما كنت البادئ) لو كان هذا حاصلٌ في زمننّا، لذبحهم وذبح أجنتهم وفجّر البيوت ع رؤوسهم..
ذات يوم كنت اقرأ كتابًا قبل النوم، كان يتكلّم عن بدايات الخلافة الإسلاميّة وكيف أنها كانت بدايات على الطريق المستقيم، لا يجور فيها الخليفة على المسلمين ولا يظلمهم. لكن عندما تتأمل جيدًا ترى أنها طريقة الحكم عند العرب، ثم ساهم الإسلام أن جعل الحكم يشمل الجميع ويتجاوز حدود القبيلة، ولكن الطريقة بحد ذاتها موجودة في الجاهلية ، فكان مطلوب من رأس القبيلة أن يكون عادلًا حازمًا كريمًا وجوادًا، ويعيش في فاقة وجوع مع عياله، وقد يذبح خيله إكرامًا لضيفه كما فعل الطائي. ولم يكن العربي يطيعُ شيخًا جبانًا يكتنز الذهب والفضة، وهذه السّمات كانت متوفرة فعلًا في الخليفة في بدايات صدر الإسلام. ولكن بمجرّد مُخالطة العرب للفرس تبنوا فكرهم في الحكم والملك ورويدًا رويدًا أصبح الخليفة يعيش خلف قصوره وحصونه وقِلاعه ولا يمكن المساس به.
في وقتنا الحاضر، عندما تناقش أحدهم عن هذا الأمر تلحظ حساسيّة من ذكر أمجاد الجاهليّة، رغم إنّي عندما أقرأ قصصهم وأحوالهم ألقاهم كِرام النفس عفيفي اللسان يغضّون الطرف ورغم حروبهم الكبيرة على أتفه الأسباب، لم يكن الغدر من طبائعهم والكلمة كانت قيدهم، لم يتعملوا من شحّ الصحراء إلّا الكرم والعطاء والأنفة،
أما تبجيل العرب للكرم فهو من أيام جاهليتهم، الأيام التي كانوا يقتتلون فيها لأجل ماء وكلأ، تفنى أرواحهم، ورغم اقتتالهم فيما بينهم ما رأوا صيغة ممكنة للخلود مثل البذل والعطاء. ما رأوا وسيلة لمقاومة فناء الجسد مثل إفناء المال.
يقول طَرَفة بن العبد الذي مات في ذروة شبابه إنه ما عرف وسائل لمقاومة الموت مثل الشجاعة وبذل الروح وبذل المال:
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى
وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
وذكر منها:
وكرّي إذا نادى المضاف مجنبًا
كسيد الغضا نبّهته المتورد
وهذا الجود لا يكون وليد السعة دائمًا، بل وليد الضيق والأيام التي ينبغي أن يقول المرء فيها: نفسي، نفسي.
فأفضل الجود عندهم أن تبذل مالك في الوقت الذي يكاد يكون فيه الشحّ هو الخيار الأسلم، في مواسم القحط والجدب، وفي ظروف تقتضي الحرص والحذر في بيئة جغرافية قاسية يقول طَرَفة أيضًا:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
حتى أن باب المعاملات في الإسلام اجتثّ اندفاع الجاهليين في كل شيء تقريبًا، عدا اندفاعهم في الجود... فوعد "من يوقى شحّ نفسه" في دار الفناء بالفلاح في دار البقاء.
ومن البديهي أن الحكمة تولد من التجرية، وأن لا شيء يحنكّنا مثل الشدائد،
كان ابن شهاب الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى له وهو يعظه: قد رأيتَ ما مر عليك من الضيق فانظر كيف تكون، أمسك عليك مالك، قال: "إن الكريم لا تحنّكه التجارب" يقول: سبق أن مرّت عليك شدّة وحاجة فادّخر الآن لمّا حصلت على شيء من السعة من أجل أن تتفادى تلك الشدائد، فقال: "إن الكريم لا تحنكه التجارب" أي يبذل ولا يفكّر في مآلات البذل.
ولفرط جودهم ما كانوا يرون أن هذا الجود تفضّل منهم على الناس، بل تفضّل منهم على ذواتهم أولاً، أي عطاء للذات لا للآخر.
يقول زهير في مدح رجل كريم:
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلا
كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُه
فعطاء الكرام للآخرين هو في جوهره عطاء لنفوسهم التي تطيب وتندى وتستريح بالعطاء.
وقد كان لمحمد بن كعب القرظي أملاك بالمدينة، وحصّل مالًا مرة فقيل له: ادّخره لولدك، قال: "لا، ولكن أدخره لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي"
ومن هذا خبر القائد الأموي يزيد بن المهلّب الذي مرّ في طريق البصرة بأعرابيّة فأهدت إليه عنزًا فقبلها
وقال لابنه ما عندك من نفقة؟
قال: 300 درهم
قال: ادفعها إليها
قال: إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير
قال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير.
يقول ابن الرومي عن معنى الكرم الحقيقي:
ليس الكريم الذي يعطي عطيته
على الثناء وإن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيته
لغير شيء سوى استحسانه الحَسَنا
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المفلس، لم يكن المفلس فيه مفلسًا من المال، بل ربط بين الإفلاس والجشع. قال: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ" فأجاب بغير هذا، وذكر من المفلسين من يأكل مال غيره.
وفي حديث آخر قال عليه أفضل الصلاة والتسليم: "ألّا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي يَنزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده"
وإلى عصرنا ما زال الكرم العربي مزروعًا في الناس، ومن صور هذا أن مجالس الضيوف أوسع ما في بيوتنا رغم أزمة السكن وغلاء الأسعار وصعوبة تملك منزل، حتى أن أغلبنا إن لم نكن ككل، نتغرّب بعيدين عن أهالينا من خمس إلى عشر سنوات لكي نستطيع بناء سكنٍ مناسب لكن مجالس الضيوف يجب أن تكون أكبر بكثير من غرف النوم .
يقول الروائي اليوناني″ نيكوس كازنتزاكس "
في الكرم، كما هو الأمر في الحُب، لا بدّ أن من يُعطي يكون أكثر سعادة ممن يأخذ"
وعن الكرم العربي يقول نيكوس في مذكراته بعد أن زار سيناء: "إنّ لديّ إعجابًا قلبيًّا عميقًا بأبناء الصحراء هؤلاء، انظر كيف يعيشون على تمرات قليلة وكمشة من القمح وقدح من القهوة إنّهم أفقر أهل الدنيا لكنّهم أكثر أهل الدنيا كرمًا. مهما جاعوا لا يأكلون حتى الشبع أو التخمة. يحتفظون ببعض السكّر وبعض القهوة وكمشة من التمر ليقدموه لغريب"
فشظف العيش في فقر الصحراء وقسوتها لم يعلّم العرب الحرص على الموارد الشحيحة، بل علمهم البذل والإيثار. وحصّنهم هذا الشظف من الطمع وعلّمهم كيف يهذبون رغباتهم بعفّة. عن هذا التعفف يورد نيكوس قصّة عن فتاة عربية مترفعة عن السؤال: "وقفت تحدّق إلى سائح أنجليزي كان قد فتح معلبات الطعام المحفوظ وبدأ يأكل وقدّم لها لقمة لكنها رفضت بكبرياء، ثمّ بغتةً داخت من الجوع وانهارت إلى الأرض.