كتب/ فهمي غانم
هو فعل أدبي والتزام وطني متقدم هو الشاعر الأستاذ إدريس أحمد حنبلة المناضل الأديب والنقابي من زمن صادح بالجمال والنضال صنع حرفته ومهارته من جهده الخاص ومن عبقرية الزمان والمكان لمدينة إسمها عدن تصنع مجداً لمن يخلص لها ومَنْ مِن مثله أقدر على العطاء والوفاء لقبلة الأحباب مدينة التاريخ والجغرافية فقد كانت عدن إحدى أهم مصادر إلهامه عندما بدأ حالما تتجمع إليه تلك الإرهاصات التي شكلت فيما بعد جزءً من جيناته النفسية وتماثلاثه الشعرية العاطفية والوطنية التي غذتّها تلك المشاهد السمعية والبصرية في مخيلته الإبداعية..
سلو مهجتي ماذا أتاح لها الهوى*
سلوها سلو حباً تغلغل فانطوى
هو الحبُّ لولا الحبِّ ماكنتُ كائناً
وهل كنتُ إنساناً يطيبُ له الثوى
هنا تندمج المشاعر ويصبح الذات هو الموضوع والموضوع هو الذات وتنعدم تلك الحدود البينية الفاصلة بين الشاعر وعشقه واستلهماته الروحية العذرية ومدينته الساحرة عدن فالإحساس واحد لأن الإلهام والمصدر واحد..
قلّما يُذكر الشعر إلاّ ويُذكر سيدُ الكلمة الصادقة والحرف النابت في الوعي والكلام المصنوع بثقل النضال وجهد الحاجة لصناعة تغيير ما في مجتمعه..
هذا ماكان عليه الرائد الأستاذ إدريس أحمد حنبلة في كل مناحي الحياة والعمل المدني النقابي والسياسي منه فكان طفرةً في الوعي السياسي الرشيد إختزل بها مرحلةً تاريخية هامة شكلّت جزءً أصيلاً من وعينا فحروفه لم تكن تتشابه مع بعضها كلّ حرف سطرّه هو مشعل في الطريق الطويل لمسيرة هذا القائد الأدبي الفذ والشاعر الألمعي فكانت كلها منارات تشعُّ ضؤاً في المكان وصوتاً في الزمان ومشعلاً لحرية يتجلّى فعلها على ارض الوعد..
يابلادي أنتِ عزّي وعتادي*
لكِ روحي وفؤادي
فانهضي بين الشعوب
وادأبي نحو المعالي
لا تبالي لاتبالي
فالعُلا شأن الرجال
شأن من يهوي الوثوب
مناداة في وقتٍ مبكر ودعوة للصحوة الوطنية ومقارعة
ذالك الإرث الثقافي الاستعماري والنتؤ التغريبي المعطّل لانطلاق تلك الكوامن التي يختزنها المجتمع للبحث عن شخصيته الوطنية وتطلعه الثقافي بعيداً عن الوصاية الجارحة لكرامته الوطنية وتبعاتها المذلة لهذا كان السؤال أمامه كيف يصوغ وعي ثقافي جديد ولحظة فارقة في حياته بل وحياة الناس لصنع إنسانٍ حر يفرض شروطه وتطلعاته السياسية والثقافية ويمهد لإنبلاج عهد جديد يتم صياغته وصناعته وفقاً لقواعد وشروط الحالة الوطنية المشتعلة بعيداً عن سياسة لي الذراع وحقن الوطن بمفاهيم سالبة والانقياد خلف سراب يمنحك رؤية مظللة وإنتعاش مؤقت يقتلع جذورك ويسلب وعيك ويلغي تاريخك وقد قطع الأستاذ الفاضل إدريس أحمد حنبلة شوطاً في مشروعه الثقافي والسياسي في إطار شراكة بينية مع رواد آخرين للعمل على تفكيك المشروع الاستعماري المقابل بعد أن لمس كيف شاخَ هذا المشروع وتعرّقت عروقه وارتخت عضلاته وبدأ كأنه أصيب بمقتل فاقتربت نهايته الافتراضية واعتراه حمى السقوط فغابت الشمس عن مملكة الوهم بعد أن سجلت الشعوب كلمتها وعلا صوتها في المستعمرات تطالب بأحقيتها بالإستقلال وبناء شخصيتها الوطنية..
أيها الشعبُ تمرّد*
إن أردتَ الغذَ تسعد
وانزعِ الأغلالَ وانشد
نغمةَ العنف المجدد
نبرةُ الكبت لها في
النفس آثارٌ تصعد
إنّ للظلّمِ جداراً
مستطيلاً سوفَ ينهد
هذا ماحدث بالضبط فصوتُ الشعوب حطم جدران الخوف في افريقيا وآسيا فكان من الطبيعي أن تكون عدن في المقدمة من ذالك الحراك العالمي وتلك الانتفاضات التي أسدلت الستار عن الدولة التي لاتغيب عنها الشمس..كانت جلّ كتابات الشاعر الأستاذ إدريس أحمد حنبلة وكأنها كُتبت بالحبر الأحمر كناية عن شعور عميق وغضب ثوري يموج في داخله إنه
يؤمن بأن القصيدة التي لاتنجز فعلها قصيدة ميتة لأنها في نظره تمدُّ الواقع الاجتماعي بشحنات من العزم وبطاقة من الفعل والإنسياب في النسيج العام للمجتمع وتعمل على تحفيز أمة حفرت تاريخها في الصخر..
نحن لا نتحدث هنا عن شاعر فرد بعينه وإنما نتحدث عن ظاهرةٍ ثقافية وعَلَمٍ أدبي ومناضل من العيار الثقيل أثقلته الأوضاع في بلاده فاحسّ بها وجدانيا فهو بهذا يُعدُّ شاعر من نوع خاص إستلهم الضرورة الوطنية في العديد من أشعاره وكتاباته واكسبها بُعداً نضالياً وإنسانياً وأخلاقياً..
لاتفزعوا فالحقُّ لايتزعزع*
ودعوه ينبتُّ في القلوبِ ويزرع
شعبٌ أفاقَ من المنامِ مودعاً
مهدَ الخمولِ فثمَّ تعبٌ أروع
عرفَ الحقيقةَ فاستماتَ مدافعاً
عنها فلا يهدأ ولايتورع
هذا عمل فيه تجريف للبنية الثقافية والأساس الايدولوجي للإحتلال وتعويمها بل وتعريتها والتقليل من مفاعيلها وتحجيم أثرها فأعاد حنبلة هيكلة الوعي الجمعي والمفهوم الثقافي الوطني بمعايير إتسمت بقدر من الواقعية السياسة وسمح بضخِ هواءٍ شعري نظيف يعيد تسطير التاريخ وفقا لمتواليات الواقع المتحرك فأبرز ملامحه المضيئة بعد أن حاول المستعمر محو الهوية واستبدالها بهوية تغريبية لنفي الذات الوطنية وقد خاض معارك سياسية ونقابية وتربوية رفع بها من منسوب الحالة الوطنية وعمل على خلق أجيال مرتبطة بالنسيج الشعبي العام وفعّلَ قنوات الإتصال معها بشكل إيجابي ولذا نلمح بكل نماذجه الشعرية والنثرية ومقارباته الإبداعية كيف اقترب من الإنسان واحسّ بوجعه فاستجابت كل أنساقه وتنويعاته الأدبية للواقع الموضوعي بغية التعامل معه بكيفية المناضل الصلب الذي لايهادن فالعلاقة البينية بين أشعاره وكل أعماله الأدبية تشئ إلى تلك النظرة الحادة لزوايا الفعل المنصهر بتلك المشاعر الجمعية لتخليق حالة مستديمة من التواصل الايجابي الدائم..
يرفضُ الإنسانُ نفسه*
ينكرُ الإنسانُ حسه
وإذا ماجنَ إحساساً
سرى يقتاتُ يومه
كل مافي الكون موح
لسؤالات مريبة
وانشغال الفكر في تفسيرها أضحى ضريبة
حينما يطلقها العقل
انعتاقات رهيبة
كان الأستاذ حنبلة يحدث الفعل التراكمي في المشهد ويقيس عليه بقدرة رسام وخبرة جراح وضع مبضعه على موطن الجرح فكان بلسماً لها ووضع ريشته على صدر الوطن الكبير فرسم منها لوحات مشحونة بالنضال وبنظرة تأملية فاحصة ومستنيرة جعل الزمن شريك فاعل في ملاحقة تلك الثقافات السلبية وإحلال ثقافة شفافة تستدعي التاريخ الوطني المشرف لمجتمعه وتفعّل الحاضر وبرسم المستقبل عمل حنبلة على هيكلة جديدة للشعر وبنى مفهومه ودافع عنه بكل إستماتة المناضل وكفاءة الاديب الشاعر وقدرة المعلم على إستشفاف القادم وبناء تصاميمه وفقا لروح المبادرة التي إجتراحها منذ ريعان شبابه..
أسمعت صوت الحق يدوي فجأة
فيطيح بالجثمان والأشلاء*
لحن الجماهير التي من حقها
سحق العدو وطغمة العملاء
اسمعته صوتاً يجلجل داوياً
ليدك أقوى معاقل الأعداء
إذا نظرنا إلى شعر إدريس فسوف نلاحظ انه أسس مفهوما موسيقيا للشعر صاغ بها تشكيلات من الترانيم الإيقاعية والثماثلات اللحنية الشعرية واعطى حرية أكبر لحركة الحرف والكلمة داخل البنى الشعرية..
ومن ديوان /تتكلم الأمواج/نحس بتلك الشاعرية وبذالك النفس الموسيقي الذي يستشري وسط القصيدة حتى كأنك تحس ان الكلمات تقدم لك طربا من نوع خاص..
وظللت انتظر اللقاء ولالقاء*
إلاّ لقاء العابرين على الطريق
نظراتهم حيرى كمثلي تائهين
نظراتهم ثكلى يعذبها
وميض الناظرين
يتهامسون..
وأنا أراقبهم..أراقب من بعيد
ضجَّ اللقاء فما عسى اللقيا تفيد؟
فمثل هذا القول يحفز تلك الخلايا العنقودية النشطة في المجتمع كي تساهم في العملية الابداعية ويستفزّ مواطن التعبير فيها ومداخل النفس التواقة لإحداث تراكمات رأسية وأفقية عملت كرافعات أثرتْ الواقع الفني بعدن وشكّلت تنوعاته المختلفة..
إن البعض ينظر إليه كشاعر تقليدي من شعراء القصيدة العمودية وقافيتها المقيدة..لكن الأستاذ المعلم الأديب الألمعي إدريس أحمد حنبلة برع في كل أشكال الشعر فهو يتحرك بانسيابية داخل المدارس الشعرية فهو في المدرسة التقليدية عميدها وناظرها الأكبر وفي الشعر الحر هو عميده وناظره الأكبر وله ديوان مشهور يشهد له بالالمعية وبقدرته ومرونة حركة الشعر حتى كأنه مدرسة قائمة بذاتها..والتجديد عنده ليس تجديدا شكليا وانما هو تجديد يتجاوز اطارها ويلامس روح القصيدة ويطلق معانٍ ورؤى من داخلها..
موجة في أثر موجة..*
ضجَّ سيفُ البحر منها
وانبرت ذراته حصباً ورملا
وهديراً لايكل
ذابت الأرواح في جزيئات الهدير
زفرات وأنين من سياط الظالمين
فالنهايات بدت مثل البداية
وبدايات النهايات لها توق وغاية
هنا يشعرك الشاعر ادريس حنبلة أنه يمتلك رصيد من البلاغة والمعرفة والقدرة على صياغة شعر اقترب كثيرا من شعر التفعيلة إلاّ أنه كان حذرا من أن يغوص كثيرا في هذا الإتجاه لأن مدماكه الشعري كان مغروسا إلى حد الثمالة بالشعر العمودي حيث يسهل عليه اصطياد معانيه وتنويعاته ويعزف بكل سخاء على أوتار قافيته ولوازمها وبيوته الشعرية التي كان يرى فيها كل حياته وسكنه البديع الذي قلّم يغادره..
لم يكن شعره ترفاً برجوازياً او أنّات لكلام مسترسل اوحرقاً معنوياً لمرحلة هي أهم مراحل تشكيل الوعي فعنونَ الأستاذ حنبلة كمناضل وشاعر ونقابي مرحلةً هامة من تاريخنا فانساق بوعيه الناضج مع جموع الشعب يعبر عنه ويمجد قيمه..
قلْ للعميل محنّط الأفكار*
مهلاً فصوتُ الشعب كالإعصار
ما هذه الصيحاتُ إلاّ طلقة
قد صيغَ منها المدفع
صفحاتنا الكبرى غذتْ أنشودةَ
الأحرار والدنيا كفاحٌ مُبدع
هناك من يلمّح إلى أن أشعاره عبارة عن منشورات سياسية تحريضية تعكس لحظة بعينها وهذا فيه إفتراء وإنتقاص من ملكة شاعر مجيد في موهبته الخيالية وقدرته ليس على رسم المشهد بل والتنبأ بملامح المستقبل بكل إحتراف وأشاع قيم التفاؤل فهو لايسرد حوادث بعينها لأنه ليس ناقلا إخباريا بل هو مبشرا نضاليا يستخدم خياله في تعزيز الصورة ورسم ملامحها إستقراءً لمعطيات الواقع وتراكمه في وعيه فعبر عنه بصورة بديعة بناء على قراءة تأملية صحيحة وموضوعية..
كما استخدم ذات الخيال في قصائده الأخرى التي إستلهم فيها اوتار أشجانه ووعيه الداخلي وإحساسه المرهف قفزت به إلى الصفوف الأولى من شعراء بلاده وعكس الصيرورة الذاتية له في توصيف بليغ وحشد للصور والتشبيهات والمجاز وكل ألوان المحسنات البديعية الأخرى فاستقام النص الشعري على تحريك وإثارة ذالك الاحساس اللذيذ بأننا أمام شاعر من نوع خاص إمتلك أدواته وحصّن أشعاره من أن يلوك فيها غير الاختصاصيين والمبدعين فكان من أصحاب الألق الإبداعي..
وسحابةٌ تمثال من بين الغيوم*
تمتصُّ أذيالَ المساء
تعوي فتلتهم النجوم
ويضمّها موتُ البقاء
هذا فناء هذا بقاء هذا فناء
لغزٌ تعثّر في متاهات الخفاء
استخدم الشاعر هنا شيئا من المنولوج الداخلي ونلمح مسحة فلسفية أطلّ بها الشاعر من وحي قدرته على إستنطاق شتّى أنواع الموضوعات وتوليد الصور والرسم بالمعاني والبيان على لوحة الشعر..
هذا بإختصار الأستاذ الفاضل التربوي والمناضل الوطني الذي تحرك في كل المساحات وقد شهدت له تلك الدواوين الشعرية التي اختزلت سجله الوطني وعنونت تاريخ رجل صال وجال ودفع الثمن بالمعتقلات والسجون دفاعا عن مشروعه الكبير وحلمه العظيم في التحرر والإستقلال والنهوض وتسجيل موقف نوعي جديد لمدينته العتيقة عدن الذي سبق تاريخها إسمها بين الأمم..