لم تعد علاقات الحب تتأثر فقط بضغوط المجتمع، بل وصل تأثير السياسات الخارجية للدول على هذه العلاقات الشخصية.
ففي زمن الصعوبات الاقتصادية، والجري خلف فرص العمل أو الدراسة خارج البلد الأم، يتباعد الشخصان المرتبطان ويمران بتحديات كثيرة تختبر علاقتهما، منها صعوبة الحصول على تأشيرة سفر للزيارة، وأحيانا استحالة الحصول عليها، إلى جانب فرق التوقيت أحيانا الذي يزيد من صعوبة التواصل. كما أن التكنولوجيا قد تخذلهما؛ فخطوط الإنترنت سيئة في بعض الدول، ودول أخرى تحجب عددا من تطبيقات التواصل الاجتماعي. مدونة بي بي سي عربي طلبت من شباب وشابات أن يكتبوا عن علاقات حب عن بعد مروا بها. إيمان خطاب (30 عاما) من مصر كتبت عما مرت به بعد أن التقت شابا في لندن، تزوجا، ثم أصبح كل منهما في بلد.
الأحد، السادسة مساءً. رسالة قصيرة أرسَلها لي على عجالة.
للإجابة عليها هناك ثلاث خطوات عليّ اتباعها: مراجعة جدول عملي، التحقق كم تبقى من باقة بيانات الإنترنت على هاتفي، والأهم من ذلك إلقاء نظرة سريعة على الساعة لمعرفة فرق التوقيت بيننا.
السادسة مساءً بتوقيته تعني العاشرة مساء عندي. أربع ساعات تفصلنا.
لم أعلم أن فرق التوقيت قد يتحكم في أمور كثيرة في حياتي قبل هذا اليوم. كصحفية، أنا معتادة على اختيار التوقيت المناسب قبل الاتصال بضيف سأحاوره على الهاتف على سبيل المثال، لكني لم أتخيل أن كل حدث يرتبط بحياتي العاطفية سيكون مرهونا بفرق التوقيت.
اليوم نكمل العام الأول على تعارفنا. قابلته خريف عام 2017، كنت قد انتهيت للتو من إعداد رسالة الماجستير في الصحافة الاقتصادية في جامعة بلندن. وكفتاة قادمة من الشرق، كنت أبحث عن الدفء في هذه البلاد الباردة. كان حبي لكل ما حولي مصدر طاقتي: حبي لكوب قهوة دافئ، ولأوراق شجر متناثرة على مقعد عتيق في إحدى الحدائق، وحتى لسنجاب يقفز مرحا مطاردا حبة بندق.
رحلت عن بلدي مصر لأدرس، ولم أكن على تمام المعرفة هل شاركني قلبي الرحلة أم آثر البقاء، كانت تلك المرة الأولى التي أسافر فيها وحدي دون أهل أو صحبة. لطالما أردت الاستقلال لكني لم أكن أدرك كيف يمكن لهذا الاستقلال أن يكون.
حط رحالي في بلد جديد هو بريطانيا، وبدأت رحلة البحث عن مسكن جديد للقلب والجسد؛ فمثلما كان عقلي يبحث عن استقرار، قلبي كان كذلك. للمرة الأولى يتفق قلبي مع عقلي على شيء، وقد يكون سبب ذلك تجربة عاطفية دامت ثلاث سنوات استنزفت كل ما أملك من طاقة.
اجتمعنا في حفل لمصورين ورسامين من جامعته، وأنا من هواة التصوير. أردت يومها أن أرى ما الجديد في هذا المجال لا أكثر. حدث أكثر مما تصورت. التقينا، تبادلنا الحديث حول شغفنا المشترك، وقبل أن ينصرف كل منا لحاله طلب رقمي. لأول مرة تحمر وجنتاي وأنا أعطي رقمي لهذا الشاب الإيرلندي. تبادلنا الأرقام وانصرفنا.
كل شيء حدث بسرعة لدرجة أن قصتي هذه أصبحت موضع تندر في كل جلسة من جلسات الفتيات، حتى التي أغيب عنها. كان يصلني أن الفتيات كن يقلن "كيف اتخذت قرارا صعبا كهذا في وقت قصير؟"، "هل بالفعل أحبا بعضهما؟"، هل يمكن لبريكست (انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي) أن يغير مسار هذه القصة؟
عدت إلى مصر، واستمر تواصلنا عبر الإنترنت، لكنه رأى أن علاقتنا ستخبو تدريجيا إن ابتعدنا، فقرر أن يأخذ خطوة جدية في علاقتنا. وقبيل أسابيع قليلة من بداية عام 2018، أي بعد نحو ثلاثة أشهر على تعارفنا، عقدنا قراننا.
اتفقنا على الزواج في مصر لأشارك هذه اللحظة مع أهلي وأصدقائي المقربين، ولسوء الحظ لم تتمكن عائلته أن تكون معنا في القاهرة، لأسباب تتعلق بموعد إجازته وغيرها من التعقيدات. خططنا للانتقال لبريطانيا حيث يعمل ويعيش منذ أكثر من 17 عاما، ولكن بعد أسابيع قليلة من زواجنا جاءني عرض عمل في الإمارات.
لم تبدو تلك الخطوة صعبة في بادئ الأمر، بل على العكس تحمسنا لها بعد أن بدت ملامح انتقالي لبريطانيا صعبة وستستغرق مدة طويلة من الاجراءات الروتينية.
تحولت الحياة بيننا لرسائل إلكترونية تلتهم المشاعر والمعاني. كم شجار نشب بيننا لسوء فهم كلمة إذ لم أقصد ما فهمه. أذكر أني فشلت مرة في تحديث إحدى تطبيقات التواصل بيننا (اسمه بوتيم، وهو أحد تطبيقات المكالمات عبر الإنترنت المسموح استخدامها في دولة الإمارات)، وبالتالي لم أتلق رسائله، الأمر الذي ظن فيه محاولة مني تجاهل رسائله فغضب.
يمر عيد أمضيه وحدي، كان من المفترض أن يأتي إلى دبي لكنه لم يتمكن من الحصول على إجازة. وعيد آخر يمضيه وحده لأن إجازتي ألغيت في آخر لحظة.
كلانا يقف عاجزا أمام شيء ما ولد، وينازع من أجل البقاء.
تكرر أمي في الهاتف كل مرة تحادثني للاطمئنان علي: "يا بنيتي، البعيد عن العين بعيد عن القلب"، وأنا أدافع بشدة لأقنعها وأقنع لنفسي "قد نقترب كلما ابتعدنا".
يفقد رواد العلاقات عن بعد الكثير.
يفقدون "الآنية"؛ فكل لحظة تمر - حلوة كانت أم مرة - لا يستطيع أحدنا مشاركة الآخر بها وقت حدوثها. أصبحنا نتشارك كل شيء بيننا عبر شاشة زجاجية عن بعد؛ التطبيب حتى أصبح عن بعد، فإذا مرضت ينصحني بما يجب علي تناوله حتى تتحسن صحتي، لكن قلبي يعتصر وأنا أقوم بذلك وحدي بعد أن أفقدتني الحمى القدرة على الحركة.
يفقدون "الإحساس بالمشاركة"؛ فأجلس وحدي على طاولة الطعام، كوب قهوة واحد في الصباح، وفرشاة أسنان واحدة في الحمام.
يفقدون "تدفق المشاعر في الوقت ذاته"؛ فلا يمكن أن أتوقع مفاجأة رومانسية لأنه حتى وإن أنهى عمله باكرا، واستقل أول طائرة فسيحتاج ثماني ساعات على الأقل ليفاجئني.
لكن بالمقابل لم يعد هناك مكان للرتابة في حياتي بفضل هذه العلاقة؛ ولا نظام ثابت. وتمكنت من الإجابة على أهم سؤال: "لماذا أحتاج لشريك في الحياة".