في 27 أبريل 1994م، صعد الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح على منصة ميدان السبعين في مدينة صنعاء اليمنية؛ ليعلن الحرب صراحة على الجنوب وشعبه وقضيته وهويته.
كان ذلك الإعلان بمثابة رصاصة الخيانة في قلب مشروع الوحدة اليمنية، التي تحولت إلى احتلال وهيمنة تحت قوة السلاح والتدمير.
لم تكن حرب صيف 1994م مجرد معركة عابرة، بل كانت مشروعًا متكاملًا لاجتثاث الجنوب، من خلال تصفية الكوادر، وتدمير المؤسسات، وطمس الهوية، وإفقار الشعب، والإرهاب الممنهج، وتحويل الجنوب إلى أرض مستباحة لسلطة الفيد والنهب.
-جذور الصراع.. كيف خُدعت النوايا الجنوبية؟
حين ذهب الجنوب إلى الوحدة في 22 مايو 1990م، كان يحمل معه مشروعًا حضاريًا ومدنيًا متطورًا، مدعومًا بمؤسسات حديثة، وجيش وطني قوي، وخبرات عالية، لكن نظام صنعاء تعامل مع الوحدة كغنيمة حرب، وسرعان ما بدأت ملامح الخديعة تظهر عبر، تهميش الوزراء الجنوبيين، وتفريغ المؤسسات من كوادر الجنوب، وتحريك آلة الاغتيالات ضد العسكريين والدبلوماسيين والمثقفين الجنوبيين، في عامي 1992 و1993 وحدهما، قُتل أكثر من 150 ضابطًا وقياديًا جنوبيًا بطريقة غامضة داخل صنعاء وعدن وتعز.
-27 أبريل 1994م ساعة الصفر
في خطابه يوم 27 أبريل 1994م، أعلن علي عبدالله صالح الحرب على الجنوب تحت ذريعة "حماية الوحدة"، بينما كانت الحقيقة استباحة كاملة للجنوب عبر، اجتياح عسكري بالقوة، قصف عشوائي على مدن ومحافظات الجنوب، استقدام القبائل للنهب والسلب تحت غطاء "الانتصار للوحدة".
وبدأت المعركة التي استمرت حتى 7 يوليو 1994م، عندما اجتاحت قوات صنعاء العاصمة عدن بعد مقاومة بطولية.
-الإقصاء والتهميش بعد الحرب مشروع استبدال شامل
بعد اجتياح العاصمة عدن وسقوط الجنوب بيد قوات صنعاء، شرعت السلطة المركزية في تنفيذ مخطط اجتثاث كامل من خلال: تسريح عسكري ممنهج، وبحسب تقارير منظمات حقوقية جنوبية تم تسريح أكثر من 90 ألف ضابط وجندي من الجيش الجنوبي قسرًا، وأجبروا على التقاعد المبكر برواتب زهيدة لا تتجاوز في كثير من الأحيان 10 آلاف ريال يمني (أقل من 50 دولارًا حينها). وجرى استبدال الضباط والقيادات الأمنية الجنوبية بعناصر من الشمال، ممن يدينون بالولاء الشخصي لعلي عبدالله صالح.
-مصادرة الأراضي والعقارات
نظام الاحتلال اليمني الحاكم صادر مساحات واسعة من الأراضي والممتلكات الخاصة والعامة للجنوبيين، وخصخصة ممتلكاتهم لصالح نافذين في السلطة، في عملية نهب منظم تحت غطاء ما سُمي "الإصلاحات الاقتصادية". خاصة في العاصمة عدن وحضرموت ولحج وأبين. يؤكد تقرير اللجنة الوطنية للرقابة في الجنوب عام 2014م، أنه:
1-تم نهب أكثر من 62 ألف قطعة أرض، و45 منشأة اقتصادية كانت مملوكة للدولة الجنوبية.
2-إقصاء الكفاءات الإدارية: تم الإطاحة بكافة مدراء المؤسسات والمرافق الحيوية واستبدالهم بمسؤولين من صنعاء وعمران وصعدة، غير مؤهلين في كثير من الأحيان.
-جرائم الاغتيال والإخفاء القسري
في مرحلة ما بعد 1994م، أصبح الاغتيال السياسي والإخفاء القسري سياسة ممنهجة.
-اغتيال القيادات الجنوبية
لم يكتفِ نظام صنعاء بالتهميش، بل أطلق موجة اغتيالات سياسية واسعة، استهدفت الكوادر والنخب الجنوبية، وتصفيتهم بدم بارد.
طالت الاغتيالات قيادات عسكرية بارزة، وضباطًا كبارًا في الجيش الجنوبي السابق. وتم اعتقال المئات من السياسيين والنشطاء الجنوبيين وزجّهم في السجون السرية. تقارير منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" تؤكد أن أكثر من 450 شخصية جنوبية اغتيلت ما بين 1994 و2009م. الضحايا شملوا ضباط جيش، وقادة ميدانيين، وأساتذة جامعات، وحتى قضاة.
-الإخفاء القسري
مارس نظام صنعاء عمليات الإخفاء القسري بحق عشرات الجنوبيين، الذين ما يزال مصير كثير منهم مجهولًا حتى اليوم. والذين اختفوا قسرًا عقب الاعتقال التعسفي، خاصة ممن كانت لهم صلات بالحراك الجنوبي السلمي أو بالمطالبات الحقوقية. تقارير حقوقية تشير إلى أن مصير نحو 130 شخصًا جنوبيًا ما يزال مجهولًا حتى اليوم.
-الاعتقالات التعسفية
حملات الاعتقال شملت سياسيين ونشطاء، وكان كثير منهم يتعرضون للتعذيب الوحشي داخل السجون السرية.
تحولت العاصمة عدن وباقي مدن الجنوب إلى ساحات رعب وصمت، خنقت فيها الحريات، وقُمعت فيها كل الأصوات المطالبة بالعدل والحقوق.
-التدمير المنهجي للمؤسسات:
لم تكن الحرب على الجنوب مجرد استيلاء عسكري، بل كانت عملية ممنهجة لتدمير البنية التحتية الجنوبية من خلال:
-تفكيك المنظومة العسكرية والأمنية
بعد احتلال الجنوب تم تفكيك المؤسسة العسكرية الجنوبية بشكل كامل، وإغلاق عشرات المعسكرات وتسريح معظم القوات القتالية، وبيع معدّات الجيش الجنوبي في أسواق السلاح.
وتم العبث بالمؤسسات الأمنية الجنوبية، وتحويلها إلى أدوات للقمع والسيطرة. ومنع إعادة بناء أي قوات جنوبية مستقلة.
-تدمير الاقتصاد
تعرضت المؤسسات المدنية الكبرى للتدمير والتفكيك، كالموانئ، والمصافي، وشركات الملاحة، والمصانع الحيوية. وتم بيع الموانئ وشركات الملاحة وشركات النفط الجنوبي لمتنفذين تابعين للنظام.
وتم تدمير البنية التحتية الاقتصادية التي كانت مزدهرة، بما في ذلك المصانع والمنشآت الإنتاجية.
ميناء عدن الذي كان رابع أهم ميناء عالميًا، تم تهميشه عمدًا حتى فقد مكانته لصالح موانئ أخرى خاضعة للنظام.
-انهيار التعليم والصحة
انهيار مؤسسات التعليم والصحة، وتحول المدارس والمستشفيات إلى كيانات مهترئة بفعل الإهمال المتعمد. وتم ضرب القطاع التعليمي والصحي الجنوبي، لتدمير مستقبل الأجيال القادمة.
أصبحت العاصمة عدن، التي كانت عاصمة اقتصادية وثقافية متألقة، مدينة مهملة خربة، تحت وطأة الفقر والبطالة والانهيار الخدمي.
-أرقام وحقائق كارثية
كانت نتائج هذه الحرب كارثية على الجنوب، حيث أدت إلى فقدان السيادة، وتدمير المنظومة العسكرية والأمنية والمدنية، وتهميش متعمد لكل كفاءات الجنوب. وتزايد معدلات الفقر والبطالة والجريمة المنظمة. مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي الجنوبي، بفعل سياسات الإفقار والإرهاب الممنهج؛ وكل ذلك أدى إلى:
-انخفاض الناتج القومي للجنوب بنسبة 65% خلال 5 سنوات بعد الحرب.
-ارتفاع نسبة البطالة في الجنوب إلى أكثر من 70% بحلول عام 1999م.
-تضاعف معدلات الفقر في محافظات الجنوب إلى مستويات كارثية: 80% في لحج، 77% في أبين، 74% في شبوة.
-اختفاء 60% من المؤسسات الإنتاجية والخدمية التي كانت تعمل قبل الحرب.
-لم تنكسر إرادة الجنوبيين
رغم حجم الجريمة التي ارتكبت بحق الجنوب، والحقد والاستبداد لم تستطع حرب صيف 1994م بكل أدواتها الوحشية، أن تمحو هوية شعب الجنوب، ولا أن تكسر إرادته، أو تقتل تطلعاته.
على العكس، شكلت تلك الحرب ونتائجها الدافع الحقيقي لانطلاق الحراك الجنوبي السلمي عام 2007م، والمطالبة الصريحة بفك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية.
اليوم، وبعد عقود من الظلم، يقف الجنوبيون أكثر وعيًا واتحادًا، يمضون في طريق استعادة دولتهم بوعي سياسي ناضج وتجربة نضالية عظيمة، وفاءً لدماء الشهداء وتضحيات الأجيال.