استفاق على ضوء الصباح، ينفض عن عينه أثر النوم، توجه إلى شرفة منزله شاردا في السحاب الذي يمر من تحت قدميه، في هذا الفضاء الشاسع على مد البصر، متأملا في هذا الإبداع الإلهي وكأنه في قطعة من الجنة، فمن يتخيل أن يسكن في مكان الغيوم تمر من تحت منزله، ولأن صورة الإبداع أرادت أن تكتمل سمع صوت البرق والرعد يعلنان هطول المطر، ولكن في هذه القطعة من الأرض، المطر هنا يُنظر إليه من فوق، لأنه يسقط من تحت أقدامه أيضا.
نعم، ففي قرية الحطيب الواقعة أعلى سفوح جبال حراز بمحافظة صنعاء في اليمن، فهناك 400 عربي يعيشون فوق السحاب، وما أن تشاهد صورها قد تعتقد أنها من وحي الخيال أو بالأحرى مرسومة أو ضمن مشهد في فيلم هيليودي، فلأنها فوق السحاب لم تشهد القرية سقوط المطر عليها على مر التاريخ، لأنه يسقط من تحتها.
وعلى الرغم من أنها تقع على ارتفاع يصل إلى 3200 متر فوق سطح الأرض، فإنها تتميز بجو دافئ ومعتدل، فتتميز بجو بارد جداً في الصباح الباكر في فصل الشتاء، ولكن سرعان ما يصبح جوها دافئاً وجميلاً وممتعاً بعد شروق الشمس.
تاريخيا؛ كل القرى المبنية في أعالي جبال اليمن، لم تبنى هكذا اعتباطا بل كانت رغبة من اليمنيين في الاحتماء والاستقرار بعيدًا عن الحيوانات المفترسة، بالإضافة إلى النجاة من الغزاة، لتبقى هذه القرى والتي على رأسها قرية الحطيب، صامدة إلى يومنا هذا محافظة على جمالها رغم الحروب والمجاعات والتوترات التي مرت عليها عبر التاريخ.
قلاع محصنة بالسحاب
قرية الحطيب مبنية فوق قمة جبل «حَرّاز»، وهو عبارة عن منطقة جبيلة واقعة بين صنعاء والحديدة، ولا تحتوي على الحطيب فقط، بل قرى أخرى ما زالت مبانيها قائمة، وبعض منها منذ القرن الـ 11 الميلادي، وبقيت هذه المنطقة الجبلية ذات إستراتيجية منذ المملكة الحميرية -مملكة يمنية من عصور ما قبل الإسلام - وذلك بسبب موقعها بين سهل تهامة الساحلي المحاذي للبحر الأحمر من الشام طولا إلى إقليم الحجاز من مكة وجازان إلى صنعاء اليمن، لذلك كان جبل «حَرّاز» نقطة توقف مهمة للقوافل التجارية عبر التاريخ، لتنشأ القرى أسفلها حتى قممها بهندستها المعمارية المميزة، مع ترك الكثير من المساحات للمحاصيل.
من عام 439 إلى عام 459 هجرية بنيت قرية الحطيب وهى تجمع ما بين الطابع المعماري القديم والحديث وما بين الريف والحضر، وتتميز بأنها منطقة جبلية تتكون من عدة قرى وقد تم بناء القرية بحيث تحيطها أسوار عالية وكأنها قلعة محصنة بمنازلها وجدرانها القوية اللاصقة بصخور جبال حراز، فنجدها مندمجة مع المناظر الطبيعية بين الصخور والحقول الواسعة النابتة، لذلك تعد من أهم المعالم السياحية والأثرية في اليمن، ويبلغ عدد سكان القرية حوالي 440 نسمة تقريبا، وهم ينتمون إلى طائفة البهرة أو «المكارمة» كما يُطلق عليهم في المجتمع اليمني.
طائفة البهرة
وطائفة البهرة كانوا تجارا، وأصل الكلمة هندي، وترجع أصولهم ونشأتهم إلى مصر خلال العصر الفاطمي، وظلوا يتنقلون ويسافرون حتى استقر أغلبهم في أماكن عدة حول العالم، وأغلبهم في الهند وباكستان وسيريلانكا وسنغافورة ومدغشقر ودول الخليج العربي، لكن تبقى الهند مقامهم الأول عبر تاريخهم، وتميز البهرة منذ القدم بزراعة وإنتاج أجود أنواع البن حيث تُزرع أشجار البُن في وديان القرية، وتسقى من أنهارها، ورغم أن عدد السكان ليس كبيراً فإنهم يصدّرون أجود أنواع البن اليمني.
إبراهيم بن حاتم الحمداني، هو الذي تمكن من تأسيس مكانا لهم على واحدة من جبال حراز في بداية القرن الثاني عشر، الذي عرف بعد ذلك باسم قرية الحطيب، وقد كان الحمداني بمثابة الإمام لأهل المدينة والمرشد الروحي، وبعد وفاته أصبح شخصًا مقدسا بالنسبة لهم، لذلك دفنوه داخل متنزه وأقاموا فوقه مسجدا ومقاما وأصبح مزارا عالميا يحج إليه كل من ينتمي للبهرة في العالم.
بقت الحطيب ككل قرى منطقة حراز بدائية بلا كهرباء أو ماء نقي أو تعليم وطرق وصحة حتى ظهر محمد برهان الدين والذي أعتبر الداعية الوحيد المعتمد حديثًا لطائفة البهرة. فبرهان الدين رجل غني جدا، مسلم من البهرة يعيش في الهند، وهكذا قرر أن يدعم حطيب، وبعد وفاته في يناير 2014، واصل ابنه ما كان يفعله، حيث يزور القرية كل 3 سنوات ليبقى بها فترة ويقوم بإدخال الكثير من الخدمات في القرية مثل الكهرباء والمياه والحدائق والفنادق والنباتات والبنية التحتية ومساعدة الفقراء في القرية، في مقابل اعتباره الداعية الأوحد للبهرة.