منذ انطلاق الحراك الجنوبي في العام 2007م، وقضية شعب الجنوب تتصاعد تدريجيًا على أجندة الداخل والخارج، حتى أصبحت اليوم من أبرز الملفات السياسية على مستوى المنطقة. ومع هذا التقدم السياسي، برزت أصوات متعددة داخل الصف الجنوبي، بعضها اختار مسار الواقعية السياسية والاشتباك الإيجابي مع الواقع، فيما فضّلت أخرى التمترس خلف خطاب حاد لا يقدّم حلولًا، بل يكتفي بتوصيف المشكلات أو جلد الكيانات السياسية العاملة على الأرض.
لكن الواقع يقول إن الخطاب الحاد، مهما بدا صادقًا أو صاخبًا، لا يكفي وحده لتغيير المعادلات ولا لاستعادة الدولة الجنوبية. فما تحتاجه قضية الجنوب اليوم هو خطاب متزن، ومشروع وطني جامع، ورؤية استراتيجية قادرة على مخاطبة الداخل وتفهم الخارج في آنٍ معًا.
-قضية شعب الجنوب ليست شعارًا عابرًا بل نضال مستمر
لا يمكن إنكار أن قضية الجنوب ليست قضية طارئة أو مستجدة، بل هي نتاج عقود من التهميش والإقصاء، بلغت ذروتها عقب حرب 1994 التي قضت فعليًا على ما تبقى من الشراكة بين الشمال والجنوب. ومنذ ذلك الحين، ناضل الجنوبيون بكل الوسائل الممكنة – بدءًا من الاحتجاجات السلمية، مرورًا بالمقاومة المسلحة ضد مليشيات الحوثي، وصولًا إلى العمل السياسي المؤسسي الذي يقوده المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم.
هذا المجلس، رغم ما يوجَّه إليه من انتقادات، أثبت قدرته على ترسيخ حضور سياسي وعسكري واضح، وإدارة تفاهمات مع أطراف إقليمية ودولية فاعلة. لكنه في ذات الوقت ليس فوق النقد، ولا يمكن إغفال أن أداءه قد شابه بعض القصور في ملفات معينة، وهو أمر طبيعي في ظل واقع مشحون ومعقّد ومفتوح على تحديات متشابكة داخلية وخارجية.
-النقد حق مشروع بشرط أن يكون موضوعيًا وبنّاءً
النقد في حد ذاته ليس مشكلة، بل هو أحد ركائز التطوير والتصحيح. لكن النقد يصبح معضلة حين يتحول إلى خطاب عدائي لا يراعي طبيعة المرحلة، ولا يفكّر بالبدائل، ويغرق في إطلاق الأحكام دون تقديم حلول.
نعم، من حق كل جنوبي أن ينتقد الانتقالي أو غيره، ولكن من باب "اعدلوا هو أقرب للتقوى". فليس من المنطقي أن يُحمّل المجلس الانتقالي الجنوبي وحده مسؤولية كل الإخفاقات أو تعقيدات المشهد، دون الاعتراف بوجود عوامل إقليمية ودولية تتحكم بمسار القضية، وتفرض حدودًا دقيقة على هامش التحرك السياسي والميداني.
-تعقيدات الداخل وصراعات الخارج
المشهد الجنوبي اليوم لا يتحرك في فراغ. بل هو مشهد متشابك تتصارع فيه مصالح قوى يمنية، وأخرى إقليمية ودولية. فهناك أحزاب يمنية ترى في بقاء الجنوب تحت سيطرة اليمن الموحد ضمانًا لاستمرار نفوذها ومصالحها. وهناك قوى إقليمية تسعى لإعادة رسم خرائط النفوذ عبر أدوات متعددة، من ضمنها النفاذ إلى الجنوب سياسيًا أو اقتصاديًا أو أمنيًا.
في الوقت ذاته، هناك نخب جنوبية تقليدية كانت وما زالت مرتبطة بمصالح مع صنعاء، وتحاول عرقلة أي مشروع استقلالي. هذا إلى جانب تداعيات الحرب، والانهيار الاقتصادي، وتضارب الولاءات، وتعدد مراكز القرار، وغياب المؤسسات المستقرة.
في ظل كل هذه المعادلات، يصبح من الظلم اختزال التحديات في المجلس الانتقالي الجنوبي وحده، أو اتهامه بالتقصير دون وضع ذلك في سياقه الواقعي والسياسي والأمني والعسكري.
-الواقعية السياسية بوابة العبور نحو الدولة
إن السعي لاستعادة الدولة الجنوبية لا يمكن أن يتحقق بشعارات رومانسية أو بخطابات انفعالية. فالعالم لا يمنح الاستقلال بناء على مظلومية تاريخية فقط، بل بناء على وجود مشروع سياسي واضح ومتكامل قادر على إقناع الخارج، وضمان مصالحه، وتقديم نموذج مستقر للحكم والإدارة.
الواقعية السياسية لا تعني التفريط، بل تعني معرفة متى وأين وكيف تتحرك. وتعني بناء علاقات إقليمية ودولية متوازنة، والتعاطي مع المتغيرات بذكاء، والانفتاح على مختلف الأطراف الجنوبية دون تخوين أو إقصاء.
فمن يطالب بالاستقلال عليه أن يدرك أن هذه الخطوة لن تأتي دفعة واحدة أو بقرار عاطفي، بل عبر تراكم نضالي طويل يبدأ بإقناع الداخل الجنوبي بمشروع وطني موحّد، ثم إقناع الإقليم والعالم بأنه ليس عبئًا بل شريكًا فاعلًا في الاستقرار.
-الجنوب بحاجة إلى خطاب جامع لا مفرق
الخطاب الحاد لا يبني الدول، بل يهدمها. فاحتكار الصواب، وشيطنة المختلف، واستخدام اللغة الانفعالية، كلها أدوات تؤدي إلى مزيد من التفتت داخل الصف الجنوبي. وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه المشروع الجنوبي.
الحاجة اليوم هي لخطاب وطني جامع، يفتح الأبواب لا يغلقها، ويجمع الكل تحت مظلة "الجنوب أولًا"، بدلًا من حصر المشروع في فصيل أو رأي معين. يجب إشراك الشباب، المرأة، النخب، القوى المحلية، في صياغة رؤية وطنية واحدة، تستوعب التنوع، وتوحد الأهداف، وتحترم الاختلافات.
-الحلول لا تأتي بالصراخ.. بل بالعمل
الذين يكتفون بنقد المجلس الانتقالي الجنوبي أو غيره بلغة حادة عليهم أن يسألوا أنفسهم: ما هو البديل؟ ما هي استراتيجيتهم؟ ما هو تصورهم للانتقال من وضع الاحتلال إلى الدولة؟
قضية شعب الجنوب بحاجة إلى مبادرات، وإلى إنتاج أفكار قابلة للتطبيق، وإلى التحرك السياسي في المحافل الدولية، والتفاوض الذكي، والمناورة، والاحتواء، لا إلى مقالات غاضبة أو خطب مرتفعة الصوت لا تغيّر من الواقع شيئًا.
-نحو مشروع وطني جامع وعقلاني
لقد أثبتت التجربة أن الجنوب لا يُستعاد بلغة العنف اللفظي، ولا باحتكار الرأي، ولا بتخوين الآخرين. بل يُستعاد بتكامل الأدوار، وتوحيد الصفوف، والاعتراف بحق الجميع في الشراكة الوطنية.
المرحلة التي يمر بها الجنوب الآن، مرحلة مفصلية، تتطلب من كل أبناءه وقياداته التحلي بالحكمة، وتقديم التنازلات لمصلحة المشروع الكبير، وتجاوز الخلافات الشخصية والسياسية، والانخراط في مشروع جامع يمثل كل الجنوبيين، ويخاطب الخارج بلغة المصالح، لا الانفعالات.
إن مفتاح استعادة الجنوب هو التخطيط لا الصراخ، والمبادرة لا المزايدة، والرؤية لا الارتجال. وعلى كل جنوبي أن يدرك أن قضية شعب الجنوب لا تحتمل التلاعب أو التشظي، وأن لحظة التغيير الحقيقي لن تأتي إلا حين يجتمع الجميع على كلمة سواء، ويتحدثون بلغة واحدة: لغة الجنوب.