تتجه الأنظار، يوم الخميس القادم، إلى مدينة المكلا "عروس البحر العربي"، التي تحتضن الاحتفال الوطني بالذكرى التاسعة لتحرير ساحل حضرموت من تنظيم القاعدة الإرهابي، بحضور القائد العسكري البارز اللواء أحمد سعيد بن بريك، الذي لم تمنعه ظروفه الصحية من المشاركة في الذكرى، التي كان مهندسها الأول إلى جانب أخيه اللواء الركن فرج بن سالمين البحسني.
تسع سنوات مضت على تحرير ساحل حضرموت. ففي أبريل 2015، سقطت المكلا في قبضة تنظيم القاعدة المفترض، دون أي مقاومة تُذكر، وظلت تحت سيطرة التنظيم لنحو عام، لتبدأ عملية رسم خطة التحرير على غرار تحرير عدن "العاصمة"، ولحج، وأبين، وشبوة.
للجنوب معركة طويلة ومفتوحة مع تنظيم القاعدة الإرهابي، منذ فجر السابع والعشرين من أبريل 1994، والتي عُرفت بـ"أبريل الأسود"، غير أن أبريل عن أبريل يختلف. فالتاريخ الذي شهد بداية الغزو العسكري اليمني، بالتحالف مع التنظيمات الإرهابية في صيف 1994، واحتلال المكلا في 2015، بالتزامن مع غزو مشابه لعدن وباقي المدن، إلا أن "حضرموت جعلت من أبريل مناسبة وطنية عظيمة".
لكن هناك حروبًا أخرى دارت، أغلبها في محافظة أبين، وخلّدت انتصارات عظيمة وتضحيات جسيمة، تخلد رموزها الوطنية من "اللواء سالم قطن" إلى "توفيق حوس"، وغيرهما من القادة الوطنيين الذين خاضوا معركة إنسانية وجودية للدفاع عن الأرض والإنسان ... لكن سؤالًا كان يتردد منذ نحو عقدين: "لماذا هؤلاء المسلحون يقتلون المدنيين في الجنوب؟" لماذا لم نرَ "إمارة" في مأرب أو تعز أو ذمار أو غيرها من المدن اليمنية الأخرى؟ هل فعلًا هذه التنظيمات صُنعت خصيصًا للجنوب؟
في عام 2012، وبينما كانت صنعاء، العاصمة اليمنية، تئن تحت وطأة الفوضى، جلس سفير دولة محورية في المنطقة مع مسؤولين، بينهم رئيس الحكومة الراحل عبدالقادر باجمال، في منزل الأخير. دار النقاش حينها حول مستقبل الأوضاع في اليمن، في حال توسعت الفوضى أكثر. وكان السؤال المطروح: "ماذا لو سقطت حضرموت في أتون الفوضى؟" فكانت إجابة "سعادة السفير": سنتدخل بقوة لمنع سقوطها في أي فوضى. ولكن حين سقطت المكلا بيد تنظيم القاعدة، كانت صنعاء قد سبق وسقطت في 21 سبتمبر 2014، بيد جماعة أشد إرهابًا من تنظيم القاعدة.
سقطت اليمن محافظة تلو الأخرى، حتى اقترب الحوثيون من السيطرة على العاصمة عدن، وتلقت جماعات مفترضة إشارة البدء للسيطرة على "ساحل حضرموت" ومدينة المكلا، لكن لم يقترب هذا التنظيم من الوادي والهضبة، بل إن الطريف في الأمر أن الأسلحة المنهوبة من القواعد العسكرية، والأموال المنهوبة من البنك المركزي والمصارف المحلية، هُرّبت باتجاه الوادي!
لم نرَ أي تدخل على الأرض، ولم نرَ إنزالًا، بل كانت هناك دولة محورية، هي "الإمارات العربية المتحدة"، تُعدّ الجيش والقوات والتسليح، وترسم الخطط، وتدرس المعركة بكل تفاصيلها لتحقيق أسرع مكاسب عسكرية وأقل الخسائر.
في 24 أبريل 2016، انطلقت المعركة المرتقبة، التي جرى التحضير لها لأكثر من ستة أشهر. القوات المسلحة الإماراتية التي نزلت على الأرض في حضرموت، قررت خوض المعركة باستراتيجية عسكرية فريدة: "التحرير والتأمين". فكان المشروع تأسيس قوات النخبة، التي كانت بالفعل "نخبة الجيش" الحقيقي، وليس ذلك الجيش الذي سلّم المكلا بكل مرافقها السيادية، من البنك المركزي إلى القصر الجمهوري، إلى الميناء وغيره من مؤسسات الدولة، وفرّ هاربًا، في أبريل 2015، صوب الوادي والهضبة... ربما من حيث انطلق، عاد أدراجه – كما يقول الكثير من أبناء حضرموت.
بدأ قادة التحرير، اللواء بن بريك (المحافظ)، ومعه اللواء فرج البحسني (قائد المنطقة العسكرية الثانية)، التخطيط لتحرير ساحل حضرموت، بتدريب قوات النخبة الحضرمية بإشراف وتسليح القوات الإماراتية، التي لعبت دورًا محوريًا في تدريب القوات، وتقديم الدعم اللوجستي والعسكري، والإسناد الجوي والاستخباراتي، مع بعض الدعم الأمريكي الذي اقتصر على تنفيذ ضربات بواسطة طائرات "درون" ضد قيادات في التنظيم.
سألت اللواء أحمد سعيد بن بريك عن تفاصيل الخطة العسكرية، فقال: "أطلقنا العملية بهجوم من ثلاثة محاور قتالية، تركزت على شل قدرات القاعدة بسرعة، وكانت النتيجة أنه تم التحرير والتأمين بوقت قياسي، دون أي خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين، لأن الخطة اعتمدت على الخبرات التي اكتسبها المقاتلون خلال فترة التدريب القصيرة (ستة أشهر)، والفضل بعد الله لقوات التحالف والقوات الإماراتية". وقد شملت عملية التحرير كامل مديريات الساحل، حتى غيل باوزير، لضمان تأمين كامل للمحافظة من أي تهديد.
لم تنتهِ عملية تحرير المكلا عند هذا الحد، بل أطلقت القوات الإماراتية المشرفة على ملف مكافحة الإرهاب، عملية "وادي المسيني"، آخر معقل للتنظيم غرب المكلا، وهذه المعركة بالذات كانت صعبة ومعقدة بفعل التضاريس الجبلية، لكن القوات والإسناد الجوي كانا "الفيصل" في تطهير وادي المسيني.
ولم تتوقف جهود مكافحة الإرهاب عند معركة وادي المسيني، بل أُطلقت عملية أخرى في أبريل 2018، لتطهير مناطق غرب حضرموت، كـ"الحيسر، وقارة الفرس، والضليعة، ولبنة"، التي كانت تشكل ملاذات أخيرة للتنظيم المفترض. وقد تم تأمين تلك المناطق خلال 24 ساعة، من خلال عمليات نوعية، وتغطية جوية من سلاح الجو الإماراتي.
ولأن تأمين حضرموت كان يتطلب تأمين مناطق أخرى مجاورة، أطلقت قوات النخبة الشبوانية عملية "السيف الحاسم" في ريف المحافظة، لتأمينها وحماية ساحل حضرموت ومحافظة شبوة من أي تهديدات. وقد جاء تأسيس النخبة الشبوانية لتأمين المحافظات من عناصر تنظيم القاعدة.
تحرير مدن الجنوب هو عملية تكامل بين الدعم والإسناد الإماراتي، والإخلاص والرغبة الجنوبية في تأمين هذه المدن ومحاربة التنظيم المفترض، الذي صُنع خصيصًا لزعزعة استقرار الجنوب، والذي، بحسب جنوبيين، يرتكب جرائمه استنادًا إلى فتاوى دينية لشيوخ الإخوان، أمثال: عبدالمجيد الزنداني، عبدالوهاب الديلمي، عبدالله صعتر، وغيرهم.
التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية هو ذلك التحالف الذي جاء لمحاربة المدّ الإيراني، وقطع يد إيران عن السيطرة على المياه الدولية والملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، لكن هناك حقيقة واضحة: "أن المكاسب – كل المكاسب – إماراتية - جنوبية"، بداية من تحرير عدن، ولحج، وأبين، وشبوة (مرتين، الأولى من الحوثيين، والثانية من التنظيمات المفترضة). لذلك، لا حرج إن قلنا: "إن التحالف هو التحالف، ولكن المكاسب العسكرية والأمنية تظل إماراتية بامتياز"، وكأن الجنوبيين قد انتظروا هذا الإسناد طويلًا، ليتخلصوا من هيمنة عسكرية وأمنية متعددة الأشكال والصور، بما فيها صورة الإرهاب في أبشع صوره.
جاءت هذه المكاسب المحققة نتيجة لتكاملٍ بين الجدية والاستراتيجية الإماراتية من جهة، والاندفاع الجنوبي للخلاص من هيمنةٍ عسكرية دامت ثلاثة عقود من جهة أخرى؛ تلك الهيمنة التي تمظهرت في قبضة أمنية دكتاتورية من جهة، وفي تطرفٍ إرهابي ممنهج ومدعوم من جهةٍ أخرى."
ولكن رغم كل هذه المكاسب الاستراتيجية، نشاهد اليوم من يعمل جاهدا على تقويض كل هذه المكاسب، بمشاريع جهوية، لم تحرف مسار الحرب ضد إيران ومشروعها التوسعي(فحسب)، بل كشفت عن مشاريع "توسعية"، لا تقل خطورة عن "مشاريع طهران التوسعية".
كل عام، والمكلا، وكل ربوع بلادنا، بخير.
#صالح_أبوعوذل