كتب / إنجي مجدي
في أعقاب توقيع مصر واليونان اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بين البلدين في السادس من أغسطس (أب) الحالي، سارعت تركيا لانتقاد الاتفاقية، ووصفها بأنها باطلة، وذهبت إلى الزعم بأنه لا توجد حدود بحرية تربط البلدين، وبدأت وسائل الإعلام التركية وغيرها من العربية المُوالية لأنقرة في الترويج للسرد التركي بأنه كان من الأفضل للقاهرة توقيع هذا الاتفاق مع أنقرة بما يُوسِّع من المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر.
ذهب الإعلام التركي للقول إن الخط الواصل بين أقرب نقطتين ساحليتين بين مصر وتركيا أقصر من ذلك الواصل بين اليونان وقبرص، على الرغم من أنه في حين تبتعد تركيا نحو 424 ميلاً بحرياً عن مصر، فإن اليونان تقع على مسافة قريبة نسبياً من قبرص، فضلاً عن مساعٍ تركية سابقة لدفع مصر للتنصُّل من الاتفاق التي وقَّعته مع قبرص لترسيم الحدود في فبراير (شباط) 2003 مقابل اتفاق جديد مع تركيا. وفي يوليو (تموز) الماضي، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، إن بلاده وجَّهت الدعوة إلى مصر واليونان، بالإضافة إلى ليبيا، لترسيم الحدود البحرية شرق البحر المتوسط.
هذه الادِّعاءات جميعها تخضع لرؤية تركية خالصة للبحر المتوسط تتعلق بشكل رئيس بعدم اعتراف تركيا باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 (UNCLOS)، وهي الاتفاقية التي وقَّعت عليها كل من مصر واليونان ولبنان وقبرص، والتي تحدد المناطق الاقتصادية الخالصة للدول على أنها تمتد 200 ميل من شواطئها. ولم تُوقِّع تركيا على الاتفاقية الأممية، ولا تقبل أحكامها، ومن ثم تجادل بأن قبرص (وهي دولة جزرية ذات سيادة) يحق لها فقط الحصول على 12 كيلو متراً من المنطقة الاقتصادية الخالصة، وترى في المقابل أن المياه الممتدة جنوباً من الجزيرة منطقة تركية، إلى أن تُصبح مصرية.
وخلال المؤتمر الصحافي لوزيري خارجيتي مصر واليونان، لفتا إلى أن الاتفاق يستند إلى قانون البحار، وإلى مبدأ (المياه الاقتصادية المحققة) لكل دولة، بما يتطابق مع القانون الدولي.
تنازلات يونانية لمصر
على نقيض السرد التركي بشأن تنازل مصر عن مئات الكيلو مترات من مياهها في الاتفاق الأخير مع اليونان، فإن هناك انتقادات واسعة واجهتها الحكومة اليونانية في الداخل جرَّاء الاتفاق. ففي أعقاب توقيع الاتفاق، قال وزير الخارجية اليوناني السابق، نيقوس كوتسياس، إن أثينا قدمت تنازلات في جميع القضايا قيد التفاوض مع القاهرة، مضيفاً أن الاتفاق منح مصر ما طلبته، ولم تأخذ اليونان شيئاً.
في أي مفاوضات تُجرى بقبول مشترك للقانون الدولي تكون هناك خلافات حول أحكام تنفيذه، وفي المفاوضات الطويلة بين مصر واليونان، التي استغرقت نحو 12 عاماً، برزت عدَّة قضايا من بينها أن مبدأ الترسيم مستند على خط الوسط. وفي حين يستند اتفاق ترسيم الحدود الذي وقَّعته مصر وقبرص في 2003 إلى مبدأ خط الوسط، فإن الاتفاق مع اليونان كان على أساس نسبي، وبموجب هذا لم تُقسَّم المنطقة الاقتصادية الخالصة بين أجزاء مُتساوية لكلا البلدين، بل حصلت مصر على 56 في المئة، وحصلت اليونان على 44 في المئة، وهو ما يُثير انتقادات المعارضة اليونانية.
وفي حديثه لـ"اندبندنت عربية" أوضح سفير قبرص لدى الأمم المتحدة، أندرياس مافرويانيس، وهو أيضاً أستاذ القانون الدولي لدى جامعة فريدريك في قبرص، أن في الاتفاق الأخير بين مصر واليونان، تم فيه تحقيق نتيجة عادلة وفقاً للمادة 74 من اتفاقية قانون البحار. وفي هذه الحالة تم تصحيح خط الوسط لمُراعاة الظروف الخاصة وتحقيق نتيجة عادلة. ويضيف "أعتقد أنه إذا قامت محكمة دولية بترسيم الحدود فلن تكون النتيجة مختلفة. حتى إنني أعتقد أن مصر حصلت على أفضل صفقة ممكنة".
أهمية الاتفاق للمنطقة
علاوة على ذلك، يُعَدُّ ترسيم الحدود المنصوص عليه في الاتفاق "جزئياً" لا يغطي خط الترسيم بالكامل. وفي حالة التمديد غرباً وشرقاً، سيأخذ هذا التمديد في الاعتبار أيضاً مصالح الدول الأخرى. ويرى سفير قبرص أن الاتفاقية مهمة للغاية؛ لأنها تؤكد أن ترسيم الحدود يجب أن يتم بنص وروح القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية قانون البحار. وفضلاً عن أنها تُبطل مذكرة التفاهم المُوقَّعة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفائز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، التي تتعارض مع مصالح جميع البلدان في المنطقة، وتشير إلى حدود "وهمية" بين تركيا وليبيا، فإن الاتفاق المصري - اليوناني يفتح الطريق لمزيد من اتفاقات ترسيم الحدود البحرية عن طريق إدخال مفهوم التصحيحات على خط الوسط إذا كان ذلك ضرورياً لتحقيق نتيجة عادلة.
وينفي مافرويانيس الزعم التركي بأن الخط الفاصل بين اليونان وقبرص أقصر من الخط الفاصل بين مصر وتركيا، مشيراً إلى أن الحدود البحرية لقبرص واليونان ترتبط إلى حد ما بتأثير معظم الجزر الشرقية لليونان (كاستيلوريزو وسترونجيلي)، ويمكن تحديد هذا فقط في إطار ترسيم الحدود بين جميع الدول في المنطقة. وإذا تمَّ تجاهُل هذا الخط بطريقة ما في الترسيم، فقد ينتهي بنا الأمر إلى وجود حدود بحرية بين مصر وتركيا. ويضيف "لا أعتقد أن مصر ستكون في وضع أفضل في هذه الحالة، على الرغم من أن تركيا تُحاول إغراء مصر للوقوع في الفخِّ".
يرى سفير قبرص أن هناك بالفعل مثلثاً صغيراً، حيث يمكن أن يكون ترسيم الحدود ضبابياً، وربما تحتاج دول المنطقة إلى محكمة دولية لاتخاذ قرار بشأن تحديد موقع الخط بدقة. ويضيف أنه من وجهة النظر القانونية، فإن المصالح القانونية لمصر ليست مُعرَّضة للخطر في هذا المثلث. ويقول "مع ذلك، إذا كان هناك في النهاية، عنصر سياسي أيضاً في تشكيل نهج مصر، فأنا على ثقة بأن مصر ستختار أصدقاءها، اليونان وقبرص".
ويعتقد سايمون شوفيلد، الزميل لدى مركز أبحاث الأمن الإنساني في لندن، أن عدم اتفاق اليونان وقبرص رسمياً على معاهدة لترسيم حدود مناطقهما الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، سمح لتركيا بمساحة للمناورة وتقديم ادّعاءات متضاربة حول من يشترك في الحدود البحرية مع من. ويضيف أن أفضل طريقة للدول المتحالفة في البحر المتوسط لمُعارضة الأذى التركي حول قضية المناطق الاقتصادية الخالصة ستكون التأكد من أن كل دولة قد وقَّعت معاهدات مع جيرانها لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصَّة بها بشكل صحيح، مما يحرم تركيا من أي مجال للمناورة أو الجدل.
حقوق الجُزُر
تشمل الاعتراضات اليونانية المحلية على الاتفاق المصري اليوناني، تجاهل المناطق الاقتصادية بعض الجُزُر اليونانية لصالح مصر. ويشير كوتسياس، وهو أيضاً أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بيريوس في اليونان، إلى أن الاتفاق تغاضى عن المنطقة الاقتصادية الخالصة لمجموعة من الجُزُر التي تقع جنوب مدينة لاسيثي، وثلاث منها (تروشيلوس وسترونجيلي وكوفونيسي) لها أهمية كبيرة كنقاط أساسية في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع مصر. فالأكبر بينها، وهي جزيرة كوفونيسي، بها حياة اقتصادية مستقلة خاصة بها، وبالتالي تتمتع بجميع حقوق الجُزُر المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة للبحار لعام 1982 المُوقَّع عليها كلا البلدين. ويضيف "عندما طالعتُ الخرائط التي تم نشرها، لم يكن لهذه المجموعة من الجُزر أي تأثير على ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، ولا حتى كوفونيسي".
وتنُصُّ المادة 121 من اتفاقية الأمم المتحدة على أن للجُزر منطقة اقتصادية خالصة وجرفاً قارياً وفقاً لأحكام الاتفاقية المُنطبقة على الأقاليم البرية الأخرى، بينما الصخور التي لا تُهيِّئ الاستمرار السكني البشري، أو استمرار حياة اقتصادية خاصة بها، ليس لها منطقة اقتصادية خالصة أو جرف قاري.
وأوضح أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي، أنه في جميع الأحكام القضائية التي صدرت عن محكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار في هامبورغ بألمانيا، في القضايا المتعلقة بالمنازعات بين الدول الساحلية، تم تصنيف الجُزر إلى ثلاثة تصنيفات؛ التصنيف الأول ينطبق على جزيرة كريت اليونانية، التي أقرَّت الأحكام القضائية بأن هذه الجُزر التي تتمتع بأهمية اقتصادية والمأهولة بالسكان تحوز منطقة اقتصادية خالصة وجرفاً قارياً كاملاً خاصاً بها مستقلاً عن البر الرئيسي (الأراضي الرئيسية للدولة التي تقع الجزيرة تحت سيادتها). ويُضيف أن المحاكم منحت في قضايا سابقة لجُزرٍ مناطقَ اقتصادية خالصة وجرفاً قارياً بشكل جزئي وفقاً لحجم الجزيرة وأهميتها الاقتصادية، بحيث يتم التعامل مع كل حالة على حِدَة. وتعلَّق التصنيف الثالث بالجُزر غير المأهولة التي تُعَدُّ صخوراً، ولا تشكل جزيرة بمفهوم القانون الدولي للبحار، وهذا النوع ليس له منطقة اقتصادية أو جرف قاري.
وينُصُّ أحد مبادئ اتفاقية قانون البحار على أن حقوق المطالبة الاقتصادية لبلد ما بالبحر وقاع البحر قد تمتد إلى 200 ميل بحري فيما يتخطى الحدود المُعتادة البالغة 12 ميلاً بحرياً، على أن تتفق الدول المجاورة على الخط الفاصل بينها، وهو ما لم تفعله إسرائيل ولبنان على سبيل المثال. وبالنسبة للدول التي يُواجه بعضها بعضاً عبر البحر المفتوح، إذا كانت المسافة بينها أقل من 212 + 212 = 424 ميلاً بحرياً، فإنها تحتاج إلى التفاوض على خط الوسط، كما فعلت إسرائيل وقبرص.
تركيا وهي غير مُوقِّعة على الاتفاقية الأممية للبحار فإنها ترفض الاعتراف بأي حق للجُزر على وجه الإطلاق في حيازة مناطق اقتصادية أو جرف قاري، وهو ما جعلها تنتهك في اتفاقها مع حكومة الوفاق الحقوق الاقتصادية لجزيرة كريت اليونانية التي تضم قاعدة عسكرية أميركية، وتحظى بأهمية اقتصادية خاصَّة. ويُشير سلامة إلى أن تركيا تجاهلت رابع أكبر جزيرة في حوض البحر المتوسط كله، فضلاً عن أنها جزيرة آهلة بالسكان. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تُوقِّع على الاتفاقية الأممية للبحار، فإنها تنأى بنفسها عن الرؤية التركية لمنطقة المتوسط. ويلفت أستاذ القانون الدولي إلى تصريحات السفير الأميركي لدى اليونان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بأن الزعم التركي الخاص بالحقوق الخاصة بالجزر هو زعم "مُنعزل".
محاولات تركيا لإغراء مصر
وقَّعت مصر وقبرص اتفاقاً لترسيم الحدود عام 2003، وهي الاتفاقية التي سعى مجلس الشورى المصري في مارس (آذار) 2013، لإلغائها بناء على مشروع قانون قدَّمه النائب خالد عبد القادر عودة، القيادي بجماعة الإخوان المسلمين لصالح عقد اتفاق مع تركيا يتجاهل قبرص كدولة ذات سيادة تتمتع بمنطقة اقتصادية خالصة وجرف قاري.
ويقول سفير قبرص إنه في حالة قبرص ومصر، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، يتمتع كلا البلدين بحقوق كاملة، ولذلك فإن النتيجة المنصفة المذكورة في المادة 74 من الاتفاقية الأممية قد تحقَّقت من خلال خط الوسط لعدم وجود ظروف خاصة أو عوامل أخرى تؤثر على عدالة النتيجة. ولهذا السبب لم يكن التفاوض على هذه الاتفاقية والتصديق عليها لاحقاً محل خلاف.
يضيف أنه كان بإمكان مصر أن تسعى لمزيد من الادِّعاءات في المنطقة إذا ما تصرَّفت مثل تركيا في تجاهل تام للقانون الدولي، وإذا كانت ستتبع سياسة توسعية. ويقول "نحن سُعداء للغاية لأن هذا ليس هو الحال فقط، ولكن مصر تحترم الشرعية الدولية. إذا تم تطبيق النهج التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، فيجب تقسيم البحر في الوسط بين تركيا في الشمال ومصر في الجنوب ولا شيء بينهما. نعم، في هذه الحالة ربما كانت مصر ستحصل على صفقة أفضل على حساب جميع جيرانها. وهذا ما تستخدمه تركيا كحجَّة من أجل استدراج مصر بعيداً عن الشرعية وخارج إطار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار". ويخلص إلى أن دول المنطقة ترفض هذا السلوك، ومن ثم فإن الصفقات الحالية هي أفضل ما يتوافق مع القانون الدولي.
أهداف توسُّعية
يقول الباحث البريطاني، سايمون شوفيلد، إن تركيا تسعى بشكل أساسي لاستخدام قوَّتها في الدبلوماسية لفصل الأراضي البحرية اليونانية عن الأراضي القبرصية، وتُجادل بأنه كان ينبغي على مصر أن تعقد صفقة معها من أجل القيام بذلك، وهو لا ينفصل عن دوافعها التوسعية؛ إذ إن هذه المنطقة مُربحة للغاية، وعلى تستحوذ كميات هائلة من الموارد الطبيعية، ويعكس هذا السلوك ميول أردوغان وتركيا العثمانية الجديدة.
ويلفت شوفيلد إلى أنه في الماضي، سيطرت الإمبراطورية العثمانية على شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله وفي ذروة قوتها كانت تحتل اليونان والبلقان والشام ومعظم مصر والمغرب الإسلامي، ومن ثم فمن الواضح أن أردوغان يسعى لاستعادة على الأقل، بعضا من المجد العثماني السابق. ويضيف "أعتقد أيضاً أن هذا هو محاولة لجس النبض لمعرفة كيف ستستجيب القوى الإقليمية لتركيا الأكثر حزماً. أرسل الفرنسيون سفينة حربية صغيرة لتحدي ذلك، وستراقب تركيا بعناية لترى ما إذا كان هذا الرد قوياً، وفي هذه الحالة قد تتراجع مؤقتاً، أو إذا كان رداً ضعيفاً، مما قد يحفزها على اتخاذ مزيد من الإجراءات المثيرة في البحر الأبيض المتوسط".
لكن يرى سلامة أهمية أن يجلس جميع الفرقاء في منطقة شرق البحر المتوسط معاً ويقومون بالتعيين النهائي للحدود البحرية فيما بينهم وتسوية كل المنازعات، والتي تمثلت في الآونة الأخيرة في تقاطع الإحداثيات الجيوديسية. فيما يقول سايمون هندرسون، مدير "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" في معهد واشنطن، إن الحل الأمثل والأشبه بالحلم هو نجاح تركيا في اكتشاف النفط أو الغاز في مياه تخضع من دون منازعة للسيادة التركية، لكن هذا الأمر غير مُحتمل.
*عن الاندبندنت عربية