بعيدًا عن الساسة والسياسة، نستعرض اليوم فن من فنون الخطابة والبلاغة والبيان، فن القدرة على تصريف الكلام والبيان ، نستعرض اليوم سيرة رائعة وجميلة
لرجلٍ يُدعى (أيوب بن القِرّيّة)
أسمه أيوب بن يزيد، القِرَّيّة هي أمه فـ نُسب لـ أمه،،
كان أيوب رجلًا فصيحًا من فصحاء العرب، يُضرب به المثل بالفصاحة والبلاغة، كان جاهليًا ثم أسلم،
قلّ من يعرفه من الناس،لأن أخباره منثوره واشتات في كتب الأخبار، وليس له كتابٌ يجمع أخباره، لكّننا نستخدم له (مَثَلًا) بشكلٍ يومي، ولوعدّت إحصائية لهذة الكلمة التي تقال باليوم الواحد لكانت بالآلاف.
قدِم ذات يومٍ على قضاءٍ أو قرية يقال لها عينُ التمر بجوار الكوفه، وكان بها عاملٌ للحجاج بن يوسف الثقفي، وكان بن القِرَّيّة معدمٌ وجائع، فلما وصل وجد أُناس يقفون على باب الأمير فقال: ما تفعلون؟ أو لماذا أنتم واقفون هنا ؟ فقالوا: ننتظر طعامُ الأمير، فانتظر معهم ثم دخلوا فدخل معهم وتغدى، وجاء على العشاء فدخل مع القوم وتعشى، فصارت هذة طريقتة كل يوم يأتِ للغداء والعشاء، حتى جاءَ يومًا ولم يجد أحد، فقال: ما حالُ الأمير، لا يأكل ولا يُطعم ، بمعنى لا هو بالذي أكل ولا هو بالذي أطعم الناس، فقالوا له أن الأمير قد وردة كتابٌ من الحجاج بن يوسف ويبدو أن هذا الكتاب أغمة، لأنه لم يفهمه، كتبه الحجاج بفصاحةٍ وبلاغة، وكما نعلم أن الحجاج فصيحٌ وبليغ، وعندما يلُحن في كلامة يُعّد، حتى أن الأصمعي قال: أربعةً لم يلحِنوا أبدًا لا في جدٍ ولا في هزل، وعدّ منهم الحجاج وعبدالملك بن مروان وابن القِرّيّة،،
فقال أبنُ القرَّيّة، أدخلوني على الأمير وأجعلوني أقرأ الكتاب لعلّي أفهمه وأعينه فيه، فدخل على الأمير فأعطاه الكتاب الذي ورد من الحجاج فقرأه وفككة وشرح ما جاء فيه، فأُعجب به الأمير وقال له: هل لك أن تكتب كتاب للحجاج بنفس الطريقة والأسلوب، أريد أن أرد عليه؟ قال أبن القرّيّة، كما تعلم أيّها الأمير أنّي رجلٌ من البادية أعرابي، أميّ، لا أقرأ ولا أكتب، ولكن ائتني بكاتبٍ وقارئ، فالقارئ يُقرؤني ما أردت أن تقوله أنت بلهجتكم، وأنا أُملِ للكاتب فيكتب، فوافق الأمير وأحضر له كاتبًا وقارئ، فكتب على الفور وأرسل الرسول للحجاج، فلما وصل الكتاب للحجاج قرأة وكان ذكيًا، قال ائتوني بالرسائل السابقة التي أتتنا من عين التمر، هذا ليس أسلوب عاملنا في عين التمر ولا يستطيع كتابة مثل هذة الرسائل، ثم كتب من فورة رسالةً للوالي في عين التمر، قال له : الكتاب الذي أرسلته قطعًا ليس أنت من كتبه، فأرسل لنا الذي كتبه لك! فأخبر الأمير أبن القرّيّة بذلك، قال له : أن الحجاج يريدك، فقال أبن القرّيّة أعفني أيّها الأمير، أنا رجل لا أبحث سوى عمّا أسد به رمقي، فأصر عليه الأمير فذهب للحجاج فلما وصل أُعجب به وقربه منه وصار رسوله للأمور العامة منها والخاصة، كخطبة النساء وما إلى ذلك، حتى أنه قيل من شدة إعجاب الحجاج بفصاحتة وبلاغتة كان يقول له أذهب وأخطب لي هند بثلاث كلمات، هذة من القصص التي حصلت معه، وله حكمة مع الحجاج على ما قرأت لم أجد أجمل منها، تستحق أن تكتب بماء الذهب، بل بالذهب نفسه،
سأله الحجاج ذات يوم
قال له:
ما أضيعُ الأشياء؟
فقال أبنُ القِرَّيّة: سراجٌ في شمس، ومطرٌ في سبخة، معنى (الأرض التي لا ينبت بها شيء بلهجتنا الدارجة يقولون "صالبه" لو تمطر إلى يوم الدين ما نبت بها شيء، )
ثم قال له وبِكرٌ تُزَفّ إلى عنّين، بمعنى لا قيمة لهذة الزيجة، وطعام متأنّقٌ فيه عند سكران، ومعروفٌ عند غير أهله،،،!
وبعد مدة طويلة من الصحبة بينهما، حدث التمرد الذي قام به والي سجستان عبد الرحمن بن الأشعث ضد الدوله الأموية والحجاج نفسه، ألَّب عليهم الناس، كان يريد حكمًا منفصلًا عن الدوله الأموية، فأرسل الحجاج أبن القرّيّة، قال له: أذهب إلى عبدالرحمن وقل له أن يكف عمّا يقوم به وله أمان الأمير، فذهب إليه ولما وصل يريد أن ينصحه قال له أبن الأشعث، يا بن القرّيّة أنت رجلًا تقي ونقي، زاهد تعرف اللّه، كيف تسمع للحجاج الذي قتّل الناس وشردهم وأنت تعلم أنه يحكم بمالم ينزل اللّه وبدأ يألَّبه على الحجاج حتى استماله، وحرضه ايضًا أن يشتم الحجاج وعبدالملك بن مروان على المنابر، ويقال أنه كتب رسالة للحجاج وجعل الذي يكتبها أبن القرّيّة، فلما قرأ الحجاج الرسالة، عرف أن الذي كتبها أبن القرَّيّة، فقال نبعثة رسولًا فينقلب علينا، فحقد عليه حقدًا عظيم، فجهز جيشًا وكسر شوكة عبد الرحمن بن الأشعث وفر هاربًا، ووقع أبن القرّيّة أسيرًا بيد الحجاج،
وبعد مدة جيء بابن القِرَّيّة للحجاج ودار بينهما حديث طويل تحت وطئ السيف فحاول أن يتوسل الحجاج دون فائده، ولما علم أن السيف سيمضي في رقبتة لا محاله قال له: أنظرني! لدّي كلمةً ستغدوا مثلًا من بعدي، فقال الحجاج أَسْمِعِني! قال: أيّها الأمير { لكلّ جوادٍ كبوة، ولكلّ صارمٍ نبوة } وأضافت الناس من بعده، ولكل عالم هفوه أو زلة، فصارت مثلًا حتى يومنا هذا، فقال الحجاج بعد أن سمع : أمض السيف، ففعلًا قُطع رأس أبن القرّيّة، فلما جلس الحجاج لحظةً وهو يشاهد رأسه يتقلب بدماءة، قال: ليتنا لم نقطع رأسه، ليتنا سمِعِنا له أكثر، ندِم ولات حين لا ندما.