بعد أن قدم مجموعة حلول لنجاح السياسة النقدية، يستعرض الدكتور/علي ناصر سليمان الزامكي، أستاذ الإدارة المالية المشارك في جامعة عدن، حزمة من المقالات العلمية حول السياسة المالية في اليمن والحلول الممكنة لإصلاحها وتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي الوطني.
إدارة السياسة المالية في اليمن.. التحديات والفرص
تمثل السياسة المالية إحدى أهم الأدوات الاقتصادية التي تعتمد عليها الدول لتحقيق استقرارها الاقتصادي وتنمية مواردها، وبلادنا اليمن تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية معقدة، حيث تواجه الحكومة صعوبات في تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، مع مواجهة أزمات متعددة تشمل تراجع الإيرادات النفطية، الحرب، والانقسام المؤسساتي، وتشير السياسة المالية إلى استخدام الحكومة للضرائب والإنفاق العام لتحقيق أهداف اقتصادية معينة، مثل تحقيق الاستقرار الاقتصادي، تعزيز النمو، وتوزيع الموارد بشكل عادل، وفي السياق اليمني تُعتبر السياسة المالية أداة رئيسة لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد.
الوضع الراهن للسياسة المالية في اليمن
حيث استعرض الدكتور/ علي الزامكي الوضع الراهن للسياسة المالية في اليمن وبإيجاز، إذ تعتمد اليمن بشكل كبير على عائدات النفط والغاز كمصدر رئيس للإيرادات، ومع ذلك تسببت الحرب والانقسامات الجغرافية والمؤسساتية في تراجع كبير في إنتاج وتصدير النفط، ومؤخرًا تم إيقاف تصدير النفط والغاز تماماً؛ مما أدى إلى انخفاض حاد في الإيرادات الحكومية العامة، كما أن النفقات الحكومية (العامة) في اليمن تركز على تمويل الأجور والمرتبات ودعم السلع الأساسية، مما يترك مجالاً محدودًا للاستثمار في البنية التحتية والخدمات العامة، كما أن العجز المالي الكبير الذي تعاني منه اليمن نتيجة عدم التوازن بين الإيرادات والنفقات، حيث يتم تمويل هذا العجز عادةً من خلال طباعة العملة؛ مما يؤدي إلى التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية، فضلًا عن تفاقم الدين العام الداخلي والخارجي في اليمن بسبب الأزمات المتتالية، مما يضع قيودًا إضافية على قدرة الحكومة على تمويل مشاريع التنمية.
تحديات السياسة المالية في اليمن
وكشف الزامكي عديد من التحديات التي تواجه إدارة السياسة المالية في اليمن أبرزها الحرب والانقسام السياسي والمالي الذي أفرزته الصراعات المستمرة؛ مما صعّب توحيد الإيرادات والإنفاق العام، وكذا انخفاض الإيرادات النفطية التي تعاني من تراجع كبير بسبب الأوضاع الأمنية وعدم الاستثمار في البنية التحتية، وأيضًا ارتفاع معدلات التضخم وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين بسبب طباعة العملة لتمويل العجز، فضلًا عن ضعف الإدارة المالية (الكفاءة والشفافية) التي تعاني منها مؤسسات الدولة، مما يؤثر على قدرتها في إدارة الموارد بشكل فعال، وانعدام الاستقرار الاقتصادي العام في البلاد وتأثيره على قدرة الحكومة على جذب الاستثمارات وتحفيز الاقتصاد.
الفرص والإصلاحات الممكنة
وأكد أن هناك عديد من الفرص التي يجب استغلالها بشكل جيد وإيجابي للخروج باقتصاد البلاد إلى بر الأمان وتحقيق الإصلاحات الممكنة، أهمها تعزيز الإيرادات غير النفطية من خلال توسيع قاعدة الضرائب وتحسين كفاءة تحصيلها، وتعزيز القطاعات غير النفطية مثل الزراعة والصناعة والخدمات، وكذا إعادة هيكلة الإنفاق العام من خلال تقليل النفقات غير الضرورية وتوجيه الموارد نحو القطاعات ذات الأولوية مثل الصحة والتعليم، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي من خلال اعتماد نظم رقابية أكثر شفافية، والعمل على تعزيز التعاون الدولي من خلال جذب المساعدات والقروض الدولية لدعم ميزانية الدولة وتنفيذ مشاريع التنمية، وخلق تعاون مع المؤسسات المالية الدولية لتطوير قدرات الإدارة المالية، والعمل على إصلاح القطاع النفطي بالاستثمار في إعادة تأهيل البنية التحتية له، وتعزيز الشفافية في إدارة العائدات النفطية، وأيضًا إدارة الدين العام بوضع استراتيجية واضحة لإعادة هيكلة هذا الدين وتقليل الاعتماد على التمويل التضخمي، والتفاوض مع الدائنين لتخفيف أعباء الديون، فضلًا عن توحيد المؤسسات المالية لضمان إدارة أكثر فعالية للإيرادات والنفقات.
مشيرًا بأن إدارة السياسة المالية في اليمن تمثل تحديًا هائلًا في ظل الأوضاع الحالية، ومع ذلك فإن تطبيق إصلاحات شاملة يمكن أن يساهم في تعزيز كفاءة إدارة الموارد وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ويعتمد نجاح هذه الإصلاحات على تحقيق توافق سياسي، وتعزيز الشفافية، واستقطاب الدعم الدولي لتخفيف آثار الصراع وبناء مستقبل اقتصادي مستدام.
تعزيز الإيرادات غير النفطية في اليمن.. الاستراتيجيات والتحديات
وأوضح الدكتور/ علي ناصر الزامكي، إن الإيرادات غير النفطية تعتبر ضرورية ملحَّة لتنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي، وبالنظر إلى التحديات التي تواجه قطاع النفط بسبب النزاع المستمر والهبوط في أسعار النفط العالمية، يصبح من الضروري تكثيف الجهود لتعزيز الإيرادات غير النفطية لضمان استدامة الاقتصاد الوطني، وهذا يتطلب تعزيز القطاعات الاقتصادية المختلفة وزيادة فعالية التحصيل الضريبي وإدارة الموارد المالية.
أهمية تعزيز الإيرادات غير النفطية ومصادرها
ويعتمد الاقتصاد اليمني بشكل كبير على الإيرادات النفطية، وهذا يشكل مصدرًا للمخاطر نتيجة تقلبات الأسعار والصراع الداخلي، بالتالي فإن تعزيز الإيرادات غير النفطية يمكن أن يعزز استقرار الاقتصاد، وتمويل مشاريع البنية التحتية والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، والتقليل من هشاشة الاقتصاد وتعزيز قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات مستقلة دون الاعتماد على الداعمين الدوليين أو المساعدات، بالاعتماد على عدة مصادر رئيسية يمكن من خلالها تعزيز هذه الإيرادات كالضرائب التي تعتبر من المصادر الأكثر أهمية لهذه الإيرادات، إلا أن النظام الضريبي يعاني عديد من المشاكل، مثل التهرب الضريبي وضعف البنية التحتية للتحصيل، وهناك عديد من المجالات التي يمكن تعزيزها في هذا الجانب كتحسين تحصيل الضرائب، وتطوير نظم التحصيل الإلكتروني لضمان أن جميع المكلفين يسددون الضرائب في الوقت المحدد، وكذا تدريب كوادر مصلحة الضرائب لتحديث مهاراتهم وتنفيذ السياسات الحديثة، وتوسيع قاعدة المكلفين، وأيضًا تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة على دفع الضرائب من خلال تبسيط الإجراءات وتعزيز الوعي الضريبي، وزيادة الالتزام الضريبي في القطاعات غير الرسمية مثل السوق السوداء، فضلًا عن تطبيق ضريبة القيمة المضافة على جميع المنتجات والخدمات.
كما تمثل الإيرادات الجمركية مصدرًا مهمًا آخر للإيرادات غير النفطية، بتحسين كفاءة الجمارك، وتطوير أنظمة آلية لتحصيل الرسوم الجمركية وضمان الشفافية في عملية التقييم والتحصيل، والعمل على مكافحة التهريب الجمركي، وأيضًا تعزيز الرقابة على المنافذ الحدودية للحد من عمليات التهريب التي تؤثر على الإيرادات الجمركية، بالإضافة إلى تحسين التسهيلات التجارية، كما تعتبر السياحة أيضًا من القطاعات التي يمكن أن تسهم بشكل كبير في تعزيز الإيرادات غير النفطية إذا تم استغلالها بشكل مناسب من خلال تنمية البنية التحتية السياحية، وتطوير المناطق السياحية الجاذبة للمستثمرين والسياح المحليين والدوليين، والعمل على التسويق والترويج للسياحة، بما يسهم في تحسين صورة اليمن على الصعيد الدولي من خلال حملات إعلامية تهدف إلى تعزيز السياحة الثقافية والتاريخية.
كما أن للقطاع الزراعي في اليمن إمكانيات كبيرة وهائلة لتوليد الإيرادات غير النفطية، خاصة في المناطق الريفية بزيادة الإنتاجية الزراعية، ودعم استخدام تقنيات حديثة في الزراعة من خلال برامج توعية للمزارعين ودعمهم بالمعدات الزراعية، والعمل على تشجيع التصدير الزراعي للمنتجات المحلية مثل القطن، التمور، والخضروات إلى الأسواق الدولية، وتطبيق رسوم محددة على المنتجات الزراعية المصدرة للمساهمة في تعزيز الإيرادات، كما يعتبر القطاع العقاري مصدرًا مهمًا للإيرادات غير النفطية من خلال الضرائب على الممتلكات، ورسوم البناء، والمبيعات العقارية، وفرض ضريبة على المبيعات العقارية والأنشطة التجارية المرتبطة بالعقارات، والعمل على تطوير تنظيمات قانونية أكثر شفافية لتحفيز الاستثمارات في هذا القطاع، ويمكن أن يكون قطاع الاتصالات في اليمن أيضًا مصدرًا مهمًا للإيرادات غير النفطية عبر فرض الرسوم على خدمات الإنترنت والاتصالات، وفرض رسوم إضافية على المكالمات الدولية لتوليد إيرادات إضافية، والعمل تشجيع شركات الاتصالات على تحسين البنية التحتية وزيادة التغطية في المناطق الريفية من خلال توفير الحوافز.
استراتيجيات تعزيز الإيرادات غير النفطية
وبين الدكتور/ الزامكي أن هناك عديد من الاستراتيجيات التي يمكن من خلالها تعزيز الإيرادات غير النفطية أبرزها تحسين إدارة الموارد المالية من خلال تطوير أنظمة جمع البيانات المالية لضمان تحقيق الكفاءة في إدارة الأموال العامة، وتقليل الإجراءات البيروقراطية وتبسيط قوانين الاستثمار، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على إعادة هيكلة النظام الضريبي، وتطوير الجمارك، ومكافحة الفساد من خلال تعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة، وتهيئة كافة الظروف الملائمة للتعاون مع المنظمات الدولية للحصول على دعم فني ومالي لتحسين الإيرادات غير النفطية وتنفيذ برامج إصلاح اقتصادي.
إعادة هيكلة الإنفاق العام في اليمن.. نهج تفصيلي للإصلاح
وأكد إن إعادة هيكلة الإنفاق العام هي إحدى الاستراتيجيات الحاسمة التي يمكن أن تساعد في تحسين كفاءة استخدام الموارد المحدودة، وتقليل العجز المالي، وتوجيه النفقات نحو القطاعات ذات الأولوية التي تدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومعالجة العجز المالي، وتحسين كفاءة الإنفاق بما يضمن أن الأموال تُنفق في المجالات التي تحقق أعلى عائد اقتصادي واجتماعي، وأيضًا تقليل الاعتماد على طباعة العملة، مما يحد من التضخم ويعزز استقرار العملة المحلية، وتوجيه النفقات نحو قطاعات التعليم، الصحة، والبنية التحتية لدعم النمو والتنمية المستدامة.
خطوات عملية لإعادة هيكلة الإنفاق العام
وعن الخطوات العملية لإعادة هيكلة الإنفاق العام تحدث الدكتور/ علي ناصر الزامكي، عن آلية للتقييم الشامل للإنفاق الحالي بتحليل بنود الموازنة لتحديد الإنفاق الضروري وغير الضروري، والتركيز على الإنفاق الذي يحقق عوائد اقتصادية أو اجتماعية مباشرة، وإصلاح نظام الأجور، ومعالجة ازدواجية الرواتب ومراجعة قوائم الموظفين الحكوميين لتحديد الموظفين الوهميين، ووضع حد أعلى للأجور والمكافآت لكبار المسؤولين، ومراجعة برامج الدعم الحكومي، مثل دعم الوقود، وضمان توجيهها للفئات الأكثر احتياجًا، واستخدام أنظمة دعم مباشرة مثل التحويلات النقدية بدلاً من الدعم العام، وأيضًا تقليل نفقات السفر والمؤتمرات والإنفاق غير الضروري في المؤسسات الحكومية.
إلى جانب ذلك العمل على تحسين إدارة المشتريات الحكومية بوضع أنظمة رقابية صارمة لتجنب الفساد والإهدار، والعمل على مراجعة العقود الحكومية الكبيرة لتخفيض التكلفة وتحسين الشروط، وتوحيد المشتريات الحكومية لتقليل التكاليف من خلال التفاوض الجماعي، فضلًا عن تعزيز الاستثمار في القطاعات الحيوية بزيادة التمويل الموجه للخدمات الصحية الأساسية، وتوجيه الإنفاق لتحسين جودة التعليم، خاصة في المناطق الريفية، والتركيز على مشاريع البنية التحتية التي تدعم النشاط الاقتصادي، مثل الطرق، المياه، والكهرباء، كما أن تحسين الشفافية والمساءلة من أهم الخطوات العملية لإعادة هيكلة الإنفاق من خلال إنشاء نظم رقابة مالية مستقلة، وإشراك المجتمع المدني في ذلك، ونشر تقارير دورية، وكذا تبني أدوات رقمية باستخدام أنظمة إلكترونية لإدارة الموازنة والإنفاق والدفع الإلكتروني، والتأكيد على تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لتقليل العبء المالي على الحكومة، ودعم المشاريع التي تسهم في توليد الإيرادات وفرص العمل.
تحديات إعادة هيكلة الإنفاق العام في اليمن
وعن أبرز تحديات إعادة هيكلة الإنفاق العام في اليمن أشار الزامكي إلى أن الانقسام السياسي يعيق توحيد الموازنات بين المناطق المختلفة، وكذا نقص الكوادر المؤهلة لإدارة الإصلاحات المالية، ومقاومة ذلك من المستفيدين من الوضع الحالي، فضلًا عن الفساد الإداري الذي يمثل تحديًا كبيرًا في تنفيذ إصلاحات الإنفاق.
توصيات لنجاح إعادة الهيكلة
ولنجاح إعادة الهيكلة دعا الزامكي إلى تعزيز التنسيق بين السلطات بتوحيد المؤسسات المالية والموازنات بين الأطراف المختلفة، والاستفادة من خبرات المنظمات الدولية والبنوك التنموية في تصميم وتنفيذ الإصلاحات، وتعزيز الثقة من خلال الكشف عن أهداف وسياسات إعادة الهيكلة بشكل علني، وتقديم حوافز للتكيف مع الإصلاحات، خاصة للفئات المتأثرة، باعتبار إن إعادة هيكلة الإنفاق العام هي خطوة أساسية لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي، ونجاح هذه العملية يتطلب التزامًا سياسيًا قويًا، وتحسين الكفاءة المؤسسية، وتعزيز الشفافية، وعلى الرغم من التحديات فإن إعادة التوازن للنفقات الحكومية ستمهد الطريق نحو بناء اقتصاد أكثر استدامة وعدالة.