على مدى الأشهر الماضية، ظلت الميليشيات الحوثية تطلق التصريحات والبيانات بأن عملياتها فقط تستهدف السفن الإسرائيلية أو المتوجهة لإسرائيل؛ في حين أن الهجمات المنفذة في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب طالت سفنا تجارية تابعة لشركات شحن عملاقة في أوروبا ولا علاقة لها بإسرائيل.
الهجمات المتصاعدة دفعت كبرى شركات الشحن خصوصا الأوروبية إلى التوقف عن عبور منطقة باب المندب، وتوجهت صوب ممر "رأس الرجاء الصالح" للوصول إلى الموانئ في أوروبا؛ وهذا القرار زاد من طول الرحلات البحرية وتكاليف الشحن، إضافة إلى التأخير في إيصال البضائع مقارنة بخط باب المندب -قناة السويس الأقصر والأوفر.
في المقابل، ظلت سفن الشحن الصينية والروسية تمر بسلام ولا تتعرض لأي هجوم أو اعتراض أو ضرر أثناء عبورها لمياه البحر الأحمر، وهذا جعل من أرباح تلك الشركات تتعاظم عقب تكثيف مرور السفن التابعة لها دون أي مخاطر أو مخاوف.
ومع انتشار قوات الاتحاد الأوروبي ضمن عملية بحرية أطلق عليها اسم "أسبيدس" أو "الدرع والحامي" لتأمين مرور السفن في البحر الأحمر، ظلت شركات الشحن الأوروبية تبدي تخوفها من المرور في هذا الممر الاستراتيجي الذي يوفر لها الوقت والمال من أجل الوصول إلى وجهاتها إلى أوروبا.
وأكدت مجموعة شركة "هاباج لويد" الألمانية، وهي إحدى كبرى شركات الشحن التجاري في أوروبا والعالم، أنها سوف تواصل توجيه سفنها للدوران حول رأس الرجاء الصالح -جنوب إفريقيا- في الوقت الحالي بسبب هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر. ورحبت الشركة بمشاركة الجيش الأمني في مهمة الاتحاد الأوروبي لحماية سفن الشحن المارة بالبحر الأحمر.
قلق الشركة ربطه خبراء اقتصاديون بالهجوم الأخير الذي تعرضت له سفينة شحن تجارية كانت متوجهة إلى أوروبا لهجمات صاروخية أثناء إبحارها قبالة السواحل اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين. الهجوم جاء بعد أيام من بدء عملية "أسبيدس" في البحر الأحمر وهو ما يؤكد أن السفن لا تزال تواجه خطر الاستهداف قبالة السواحل اليمنية.
وكانت وزارة الدفاع الفرنسية كشفت إسقاط القوات البحرية العاملة ضمن مهمة "أسبيدس" في البحر الأحمر مسيرتين مفخختين تم إطلاقهما من مناطق سيطرة الحوثي تجاه سفينة شحن تجارية في البحر الأحمر.
وبحسب مراقبين ملاحيين فإن السفينة التجارية المستهدفة تدعى "جول فيرن" وهي سفينة نقل حاويات تابعة لشركة الشحن والنقل الفرنسية (سي.إم.إيه سي.إم.جي). وعبرت السفينة البحر الأحمر الثلاثاء، تحت حراسة البحرية الفرنسية، في أول رحلة لها بعد تعليق عمليات المرور بسبب المخاطر الأمنية في وقت سابق من هذا الشهر.
إسقاط الجيش الفرنسي مسيرات مفخخة حوثية، خلق تأكيدا كبيرا لدى شركات الشحن الأوروبية والمسؤولين الأوروبيين، بأن العملية البحرية التي تم إطلاقها، لن تكون حلاً كافياً للخروج من التأثيرات الاقتصادية التي لحقت بالدول الأوروبية جراء الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها السفن التجارية في البحر الأحمر.
الاستهداف الحوثي الجديد تجاه السفن المتوجهة صوب أوروبا رغم انتشار قوات ""أسبيدس" دفع بالاتحاد الأوروبي إلى التحرك صوب قنوات أخرى، بعيدة عن الجانب العسكري للحصول على امتيازات لمرور سفنها في البحر الأحمر دون أي استهداف؛ كما هو الحال مع السفن الصينية والروسية التي تمر بسلام دون أن تتعرض لأية استهداف.
التحرك الأوروبي برز بشكل واضح من خلال التصريحات التي أطلقها القيادي البارز في ميليشيات الحوثي المعين في منصب نائب وزير الخارجية، حسين العزي، في المؤتمر الصحفي الذي عقده في صنعاء، الأربعاء. وكشف خلاله عن محادثات تجريها جماعته في صنعاء مع الاتحاد الأوروبي حول أمن البحر الأحمر. واصفاً تلك المحادثات بأنها "بناءة".
وقال القيادي العزي: إن هناك محادثات مع "الأوروبيين" بوساطة نرويجية، وهي بناءة، التأكيد خلالها أن الملاحة البحرية آمنة، وسنخاطب جميع الدول بالتواصل معانا. في إشارة إلى أن الهجمات البحرية التي يشنونها ليست مرتبطة برفع الحصار عن غزة أو محاربة إسرائيل، وإنما لإجبار الدول على الاعتراف بشرعية صنعاء وتلبية للشروط التي يضعونها من بوابة "تجنب الهجمات البحرية وحماية السفن المارة قبالة سواحل اليمن".
تصريحات القيادي الحوثي حول مباحثات بناءة مع الاتحاد الأوروبي، تزامنت مع نشر تقارير حول اتفاقات غير معلنة أبرمتها شركات شحن أوروبية مع سلطة صنعاء مقابل المرور الآمن لسفنها في البحر الأحمر.
وأوضحت تلك التقارير قيام شركات أوروبية بدفع أموال لجماعة الحوثي في اليمن مقابل عدم استهدافها والسماح لها بالمرور دون أي اعتراض. موضحة أن هناك سفنا تدفع ما يقارب المليون دولار أو أقل، وتبقى هذه المبالغ أقل من التكلفة التشغيلية التي تحتاجها السفينة إذا مرت عبر رأس الرجاء الصالح.
ويؤكد المحلل السياسي -رئيس مركز أبعاد للدراسات، عبد السلام محمد، أن شركات أوروبية بدأت تدفع لجماعة الحوثي مبالغ مالية كبيرة حتى يسمح لها بالعبور في البحر الأحمر. موضحا خلال منشور له على منصة إكس: أن "الميليشيات فتحت لها كنزا ماليا ضخما سيدر عليها بمليارات الدولارات سنويا، ما يعني أن حربهم في البحر الأحمر مربحة".
وأضاف محمد إن" تقريرا لوكالة "شيبا انتلجنس" يكشف أن الشركات الأوروبية بدأت تدفع أموالا للحوثيين مقابل مرور سفنها البحر الأحمر. وأشار إلى أن "الأموال يتم تحويلها لحسابات بنكية خارجية يديرها الناطق الرسمي للحوثيين محمد عبد السلام" المتواجد في مسقط. مضيفا إن متوسط ما تدفعه السفينة الواحدة يصل إلى نصف مليون دولار.
وقال: "يتحصل الحوثيون أكثر من ستة ملايين دولار يوميا من مرور 20% من السفن، ما يعني أن الحوثيين حصلوا على أموال في هذا الشهر لا تقل عن 180 مليون دولار، وسيحصلون على ملياري دولار سنويا إذا استمر الإبحار بهذا المستوى المنخفض".
كما أن التواصل بين الاتحاد الأوروبي والميليشيات الحوثية، يكشف مدى الخلاف القائم بين الاتحاد والولايات المتحدة الأميركية، وتقاطع المصالح خصوصا الاقتصادية.
فمنذ بدء التوترات في البحر الأحمر سعت أوروبا إلى أن تنأ بنفسها من الحرب والتصعيد عسكرياً من خلال رفضها المشاركة في التحالف العسكري الذي شكلته أميركا وبريطانيا لردع الحوثي تحت مسمى "حارس الازدهار" لردع الهجمات الحوثية وحماية السفن. في المقابل أطلقت عملية عسكرية دفاعية فقط لحماية السفن وتأمين مرورها قبالة سواحل اليمن.
كما أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يرفض اعتماد التصنيف الأميركي لميليشيات الحوثي، واعتبارها منظمة إرهابية.
وهذا أكده دبلوماسيون أوروبيون بأن لا علاقة لهم بالتصنيف الأمريكي للحوثيين واعتبارهم كياناً إرهابياً.
وقال لويس ميغيل بوينو، المسؤول الإعلامي الإقليمي للاتحاد الأوروبي لمنطقة الشرق الأوسط والشمال، في مقابلة مع قناة الجزيرة، إن “الاتحاد الأوروبي لا يعتبر حركة أنصار الله منظمة إرهابية، ولا يوجد قرار أوروبي رسمي أو غير رسمي بذلك”. "وقرار تصنيف الحوثيين هو قرار أمريكي فقط”.
على ما يبدو أن الموقف الأوروبي بعدم الانجرار في الصراع بالبحر الأحمر، يسعى إلى الحصول على ذات الامتيازات التي تحصل عليها الصين وروسيا لسفنها المارة قبالة اليمن؛ وهذا أكدته عملية التواصل غير المعلنة بين الطرفين تحت غطاء "الحفاظ على أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر".