كتب / محمد علي محمد أحمد
مرت ٢٨ عاماً على وفاة أبي الحبيب و في مثل هذا اليوم ذاته ، ولا زلت أتذكر جيداً كل تفاصيل ذلكم اليوم المبارك من يوم الجمعة و صباحه الغائم الممطر في شهر الله الفضيل رمضان في الـ ٢٥ منه للعام ١٤١٥هـ الموافق لـ ٢٤ فبراير ١٩٩٥م ، بعد صراع مرير مع ما ابتلي به من مرض خبيث لا يرحم ، أعجز علوم الطب المتقدم ، فما إن عاينوا حالته ، تعجبوا وكل واحد منهم يحدث الآخر بمفردات الطب التي لا أفهما ، فقلت لهم بعد أن لحقت بهم إلى غرفة الأطباء ، خيراً !! مالذي ظهر عنده ، و هنا طلبوا مني الجلوس ، وقالوا لم نعمل شيئ ولا بوسعنا أن نقوم بأي شيئ إلا الدعاء بمعجزة من الله الشافي اللطيف ، أما في حساب علوم الطب التي درسنا و سنوات طوال في ممارسة مهامنا وخبرتنا ، فإن ما أصاب والدك و الحالة التي رأيناها يستحيل أن نراه منذ أكثر من نصف سنة على الأقل في مشفانا هنا حياً و بكامل وعيه وقوته ،،
و هذا كل ما قاله لي أساتذة الطب المخضرم وجهابذة الجراحين العرب بمعية كبار استشاري الوطن ، و منهم صديق والدي الحبيب الذي أدهشني حينما استقبله في مكتبه بحفاوة و رعاه بكل اهتمام و عناية ، وهو من وجه بنقله إلى المشفى و أوصى إدارته بوضعه في غرفة خاصة و تحت إشرافه شخصياً ( إنه الطبيب الإنسان والجراح الكبير البروفيسور معالي وزير الصحة وقتئذ عبدالله عبدالولي ، الذي حدثني عن تاريخ والدي وعن شجاعته و مآثره و دوره البطولي والنضالي والفدائي لتحرير الوطن ، ويعلم الله كم شعرت لحظتها بفخر كبير و عزة و شموخ بمن أنتسب إليه و شرفني الله به و بـ أمي الحبيبة قرة عيني و نبض فؤادي ربي يحفظها و يحميها و يعافيها و يطول بعمرها.
صبرٌ و جَلَدٌ و إيمان تحلَّى به أبي الحبيب رحمه الله طوال أكثر من خمس سنوات عاشها بعد أن أجمع الأطباء باستغراب عن قوة تحمله و صبره رحمه الله بالرغم من انتكاسته و صدمته جراء الوضع السياسي المؤلم و تهميش رجالات الوطن الأوفياء وتسلق الدخلاء و أشباه الرجال الجبناء ، إضافة إلى المعاناة الجسدية القاسية بسبب مرضه الذي هز قاع قلبي حين قبلت جبينه البارد الناصح البياض كبياض قلبه الطاهر ، كم أنت عظيم يا والدي العزيز حين تحملت كل ذلك العناء وأخفيته عنا حتى لا تخيفنا أو تقلق راحتنا و تحرمنا سعادتنا !!
وبالرغم أنه لا ألم يضاهي ألم فقده ولا ذكرى أقسى من ذكرى رحيله ولا حزن يفوق حزن وفاته ، إلا أنه وهو راحل عنا علمنا :
كيف نستعد بكل هدوء و إيمان و ابتسامة لساعة رحيلنا
كيف نودع بلا قلق أحبابنا
كيف نرحل عنهم وهم راضون عنا
بل أنه أوصلنا لأن ندعو له من كل قلوبنا و نحن نشعر به وصنوف العذاب والألم تنهال عليه حتى و إن حاول طيلة سنوات عديدة إخفاؤه عنا .
أبي الحبيب في مثل هذا اليوم الجمعة و قبل ثمانٍ وعشرون عاماً غبت عنا لكنك مازلت حاضر فينا ، في وجداننا ، واسمك يرافقنا في صلواتنا و دعواتنا ..
فاللهمّ إنّه صبر على البلاء فلم يجزع، فامنحه درجة الصابرين، الذين يوفّون أجورهم بغير حسابٍ ، اللهمَّ تقبّل منه القليل وتجاوز عنه التقصير، اللهمَّ اجعل مرضه كفّارةً لجميع ذنوبه، واجعل آخر عذابه عذاب الدنيا، اللهمَّ ثبّته بالقول الثابت وارفع درجته واغفر خطيئته وثقّل موازينه، اللهمَّ حاسبه حساباً يسيراً يا أرحم من عباده بأنفسهم ومن الأم بولدها ، اللهمّ شفّع فيه نبيّنا ومصطفاك، واحشره تحت لوائه، واسقه من يده الشريفة شربةً هنيئةً لا يظمأ بعدها أبداً .
رحمك الله أبي و غفر لك يا فقيد قلوبنا
يا فقيد وطنٍ هو الآخر بَعدَكَ ضـــاع منا
فنـم قرير العين أبا محمد يا قرة أعيننا .