"لا نملك شيئاً لنخسره"، جملة تختصر واقع شريحة كبيرة من اللبنانيين. في الأشهر الأخيرة، فقد كثيرون الأمل ليس لشيء إلّا لأنهم خسروا أعمالهم، وباتوا عالة على مجتمع منهك. وكسر بعضهم الخطوط الحمر، ليعرضوا أغراضهم الشخصية والبيتية للبيع.
في 2020، أصبح الحصول على الحليب والحفاضات بمثابة الحلم للفرد في لبنان. وفي سبيل ذلك، لجأ شبان كثر إلى عرض أغراضهم على مواقع التواصل الاجتماعي لبيعها لقاء مبالغ ضئيلة علّها تسد رمقهم. وتصادفنا قصص كثيرة، تخط مسيرة الألم والشعور بالتقصير. يروي سمير قصته لـ"اندبندنت عربية"، فهو أب لطفلين، الكبير ثلاث سنوات، والصغير سنتان، يعجز عن تأمين الحليب لهما.
يعمل سمير في إحدى المؤسسات، يحصل على أجر 400 ألف ليرة لبنانية، لا تكفي أكثر من إيجار بيته في منطقة السويقة في مدينة طرابلس، شمال لبنان. وعلاوة على ذلك، يحتاج إلى شراء الحليب لطفليه، معبراً عن استعداده "للتضحية بأي شيء يملكه" من أجل الحصول عليه، خصوصاً أن أحد أبنائه يعاني من التحسّس حيال أنواع محددة من الغذاء، وكان يشتري له علبة الحليب الخاص التي أصبح ثمنها مئة ألف ليرة حالياً، بعد ارتفاع سعر الدولار. لذلك قدّم تنازلات واشترى نوعية تجارية "العلبة الكبيرة بـ80 ألف تكفي الولدين لأسبوع، بينما القديمة كانت تغذي المريض ليومين فقط".
بيع المقتنيات الشخصية
يجتمع في ساحة التل وسط مدينة طرابلس عدد كبير من الأشخاص الذين يبيعون مجموعات من المقتنيات المنزلية. ولا يتردّد أحدهم بالقول إنه لم يعد يتوفر شيء عليه القيمة لبيعه، كما أنهم لا يهدفون من بيعها إلى تحقيق ربح لشراء لحوم أو طعام فيه دسم، بل تكفيهم ربطة خبز أو القليل من البرغل، لأن "البيضة أصبح ثمنها 1500 ليرة"، ولا تكفي العشرة آلاف لعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص، كما تقول إحدى السيدات.
يومياً، يفرش نديم رياض حداد أغراضه على أحد جوانب الساحة. تشبه الأغراض تلك التي كانت تستخدم منذ 30 سنة. يقول إنه يحصل عليها من بعض الأشخاص الذين يبيعون أغراضهم مقابل القليل من المال. ولا يستغرب حداد بيع الناس مقتنياتهم الشخصية لأنهم جاعوا، وليس لديهم أي مصدر للعيش، مشيراً إلى أنه يعيش في بيت خاوٍ يتألف من غرفة واحدة، ليس فيه إلّا فرشة واحدة تنام عليها ابنته.
لا تختلف قصة بشير الحلو عن مرارة تجارب سابقة. يحلف الرجل الأشيب أن في جيبه لا يوجد سوى قطعة نقدية من فئة 250 ليرة لبنانية يبرزها للمارة. ويلجأ في أموره إلى الله الرزاق، ويحذّر أن الناس ستهجم وتسرق في فترة لاحقة، بعد أن تصل إلى مرحلة "لا تمتلك شيئاً لبيعه".
يمثل الحلو شريحة من كبار السن في لبنان، الذين تقاعدوا وليس لديهم أي مدخرات أو مورد دخل كافٍ.
كل يوم بيومه
ينظر علم الاجتماع بخوف شديد إلى ما يحصل في لبنان تحت وطأة التحديات والظروف الاقتصادية الصعبة، إذ تلاحظ المتخصصة في الأنتروبولوجيا سوزان منعم أن "اللبناني بات يعيش وفق نمط كل يوم بيومه". وتعيد ذلك إلى أسباب عدة، هي فقدان العمل وجائحة كورونا والتوترات السياسية والأمنية. وتلفت إلى أن الدراسات الميدانية تشي بمخاطر كبيرة، إذ هناك "عائلات تعتاش على ربطة خبز وعلبة تونة"، ملاحظةً ظهور طبقة جديدة في لبنان هي "الفقراء الجدد"، على غرار ما كان يُحكى عن "الأغنياء الجدد".
لا تندهش منعم من "قيام الناس ببيع السجاد لشراء الحاجات الأساسية"، وتحمّل غياب السياسات الاجتماعية مسؤولية ذلك.
الأيام المقبلة صعبة
في غياب شبكة أمان اجتماعية، سيبقى اللبناني يعيش حالة من التيه وفقدان الإحساس بالأمان. ويعتقد الخبير الاقتصادي دان قزي أن "لبنان سيشهد هبوطاً في مستوى المعيشة لدى جميع الطبقات الاجتماعية، حتى الطبقات الغنية التي لا يمكنها سحب ودائعها البنكية لعدم امتلاكها الواسطة".
كما لا يستغرب التوجه لإلغاء الدعم، لأن احتياطات مصرف لبنان بالدولار أصبحت في المنطقة الحرجة بعد استخدام الودائع. ويوضح أن الدعم كان يشمل جميع السلع المستوردة، وأصبح في الفترة الأخيرة يقتصر على السلع الأساسية، مثل القمح والمحروقات والأدوية. ويصف قزي سياسة الدعم القائمة بالخاطئة، لأن المحتاج لا يستفيد منها. فعلى سبيل المثال، يستفيد الأغنياء من دعم الكهرباء لبيوتهم والبنزين لسياراتهم الفاخرة على حساب من يحتاج فعلاً إلى الدعم. لذلك، يحذر من أن "استمرار الدعم ونزف الدولار، سيؤدي إلى انقطاع الكهرباء بفعل عدم توفر القدرة على شراء الفيول".
ويقترح قزي إنشاء شبكة أمان اجتماعية للفئات الأكثر فقراً، وتقديم مساعدة مباشرة لها واعتماد الشفافية في توزيعها. كما يمكن اعتماد شبكة نقل مشترك بخطوط عمومية مجانية لتأمين الانتقال إلى مراكز العمل.
ويتحفّظ على نجاح دعم السلة الغذائية الذي أقرّته الحكومة المستقيلة، مشيراً إلى أن الإصلاح لم يعد خياراً بل أصبح واجباً للتخلص من الفساد. كذلك، يرفض قزي نظرية المؤامرة لأن الجهات الدولية لا تسعى إلى فرض شروط سياسية مقابل المساعدات، وهؤلاء قدموا لنا 11 مليار دولار في مؤتمر سيدر، إلّا أننا لم نقم بأي خطوة إصلاحية، حتى لم تنشئ الحكومة موقعاً إلكترونياً، كما أن كل فئة حاولت جذب إعانة صندوق النقد الدولي لصالحها. ويلفت إلى أن توزيع المساعدات من خلال المؤسسات غير الحكومية يبقى حلاً ممكناً ومفيداً.
ويشير قزي إلى أن نسبة البطالة منذ سنوات لا تقلّ عن 30 في المئة، وقد تصل إلى 50 في المئة في صفوف الشباب، وهؤلاء لا يشعرون بتأثير سعر الدولار لأن أجورهم عند مستوى الصفر، لذلك يطمحون إلى الهجرة من أجل الإنفاق على عائلاتهم المقيمة في لبنان.
وينتقد عمليات إخراج النقد الأجنبي من لبنان إلى الخارج بسبب الاعتماد على العمالة الأجنبية. ويتحدث عن ظهور فرص عمل جديدة، خصوصاً تلك التي كان يسيطر عليها الأجانب بسبب عدم القدرة على تأمين أجورهم بالدولار في السوق المحلية.
ويتوقع قزي أن تمتد مرحلة التعافي إلى ما لا يقل عن خمس سنوات، شرط التوزيع العادل للخسائر وتشكيل حكومة متخصصة، تتيح الأحزاب لها العمل، على أن تمتلك الصلاحيات التشريعية.