قبل خمسين عاماً عندما كان الاستعمار القديم يبسط نفوذه على الوطن العربي والأقاليم المجاورة له ويتحكم في كل صغيرة وكبيرة من شؤون هذه المنطقة، لم تكن الأقاليم تطمع في أكثر من أن تنال استقلالها، لكن بعد خروج الاستعمار القديم بدأت بعض هذه الأقاليم تطمع في أن يكون لها نفوذ في بعض الأقطار العربية أو فيها جميعاً، وهو الأمر الذي أربك العلاقة بين أقطار الوطن العربي وجيرانه وعكّر صفو المودة التي كانت قائمة عبر العصور.
والآن كيف لمنظمي العلاقات بين دول المنطقة وأقطارها أن يتبينوا خطاً فاصلاً بين ما هو ضار وما هو مفيد ليتمكن الجميع من أن يعيشوا تحت ظل الاستقرار والأمن المطلوبين؟ ولن يكون ذلك صعباً ولا مستحيلاً للشعوب، القريب منها والبعيد، والتي تحرص على استمرار الحياة الهادئة والمستقرة الدافعة للبناء والتطور بدلاً عن افتعال المعارك الجانبية والاسترسال في إطلاق عنان الأطماع والفوضى. وما كان يمكن أن يتم في هذا المجال قبل أعوام صار الآن مستحيلاً في المناخ الدولي الراهن وعصر منظمات حقوق الإنسان وحرية الشعوب.
ومن هنا، وتأكيداً لما سبق، فإن على الأقاليم المجاورة للوطن العربي أن تعي هذا المفهوم وهذا الواقع وأن تعمل على حماية نفسها وعدم التصدي لما يمس سلامة جيرانها، وأن تسارع إلى كف الأذى والتحرشات التي تنذر بتدمير علاقة الجوار، وخلق أوضاع قلقة منافية لما هو مطلوب لمنطقة لا يجوز أن تستمر في حالة اشتعال بلا مبرر ولا معنى.
ولعل المتابع المدرك لما يحدث هنا وهناك قادر على تصور ما ينبغي عمله وتدارك الأخطاء الصغيرة قبل أن تكبر وتأخذ حجماً لا يتناسب مع مستجدات الواقع، وما يحدث في العالم من مخاضات علمية وفكرية جديرة بالمتابعة والإدراك.
وسيكون علينا نحن أبناء الوطن العربي أن نعلم علم اليقين أن وحدتنا وتضامننا هما المرتكز الحيوي الذي عليه يتم بناء المستقبل وتحدي كل المحاولات الهادفة إلى إبعادنا عن الطريق الصحيح. وفي تجارب الماضي القريب والبعيد ما يكفي لبناء المسار المطلوب اقتصاديا وثقافياً ومعرفياً.
كما لا بد أن نعترف بأن وقتاً كبيراً قد ذهب علينا أدراج الرياح وكان من المفترض أن يكون مجالاً لا لتوسيع المعرفة فحسب، وإنما لبناء الأسس الحقيقية لهذه المعرفة. فالمعارف تتجدد والعالم يحرز كل يوم انتصاراً، ولا تتوقف الاجتهادات المؤدية إلى تغير المزيد من هذا الواقع المتجدد، وذلك كله لا يفرض علينا المتابعة وإنما أيضاً المشاركة. فيكفي بعد كل هذا الزمن الذي مر علينا ونحن نتفرج ونستهلك.
وما لم نبدأ من الآن ونخوض الطريق الأسلم والأوضح إلى ما سميناه المشاركة، فإننا سنظل نلف وندور في دائرة العجز والانتقاص، ولن نحقق الهدف الذي من أجله تسعى الشعوب وتبذل أقصى ما تسطيعه لعبور حالة التخلف إلى واقع جديد لا يمت بصلة إلى ما قبله. ومن حسن الحظ أن أمامنا مجموعة هائلة من التجارب المهمة التي على طريقها يتكون التحول وتتشكل المعالم الجديدة للزمن الجديد.