تاريخ النشر: الاثنين 24 يونيو 2019 - الساعة:08:30:59
منذ زمن بعيد، وقلبي في أعالي السماء يرفرف كطير مقصوص الجناح، ففي صغري كنت أحسّ ذلك الكائن المتواري خلف جوانحي يرفرف دون توقف، وبعد أن كبرت لم أزل أجده كذلك، ولا بُد أنه سيبقى كما عهدته وقت الصغر.
ذلك الاضطراب والخفقان الذي ينتابُ كياني مراراً، لم يكُ ناتجاً عن خوف أو مرض، إنّما يباغتني كلّما استذكرت عهد دولة سبأ، ذلك العهد الذي لم ولن يعود أبداً، وأنّى له أن يعود؟! وقد صار في خبر كان، قبل أن يعرف نحاة العرب كان أو أخواتها.
إن تذكرتَ ذلك الزمن البائد الذي كانت لنا فيه دولة، ووقفت يوماً على أطلالها في تلك المدينة الواقعة شمال شرق صنعاء لندمت أشدّ الندم، وربما ومن فرط القهر تفقد الوعي وتغمى، وكيف لا تقهر؟ وقد أعلمتك أن من يتعالى اليوم علينا، ويحسب نفسه وصياً، كان ذلك الحين راعياً للغنم وبلا مأوى.
تلك هي مأرب التي تعرف العُربان الأصائل قدر الدولة التي نشأت على سهولها، بل إن قدرها يسمو على كل مراتب الفضل والقدر، وإليها ينتسب كثيرون، وقد قيل إنها أصل العرب، وقد تحدث عن دولة سبأ وذكر مجدها بعض الكتب السماوية كالتوراة، ناهيك عن القرآن الكريم الذي أفرد لحديثها سورة كاملة، فضلاً عن مقطوعات حكت عن مجيء الهدهد إلى سليمان من أرض سبأ بنبأ يقين.
في مأرب لم تزل تلك الأطلال باقية، ولكم تمنيت زيارتها، لا سيما لحظة سماعي موسيقار اليمن ورمزه الكبير، أيوب طارش، يترجّى سحابة مأرب أن تمطر، لتروي التراب الذي تصحر بعد جنة، وهان بعد عزة، وذلك في أغنيته المستهلة بـ :"شني المطر يا سحابة، فوق خضرا الحقول/ قولي لمأرب: متى سده يضم السيول؟!".
ما إن أسمع أيوب يغني بذلك إلا وأتمنى أن أسافر إلى مأرب لأرى بأم عيني أرض الجنتين، وعرش الملكة بلقيس، وسد مأرب الشهير، ذلك ما تمنيت وتحقق ذات صباح.
في يوم الجمعة 13/ 4/ 2018، وطئت بقدمي تلك الأرض التي داس التحالف العربي على عزتها، زرت سد مأرب برفقة ابن عمي مصطفى بن ناصر، وناقشته عن تاريخنا، وكيف جعل الله أجدادنا أحاديث، ومزّقهم كل ممزق، وبدلهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
حين أعرض السبئيون عن طاعة الله وعبدوا من دونه، وتجبروا وظلموا غيرهم، كان ذلك مكمن نهايتهم وبداية لكارثة ربما ما زلنا إلى اليوم نقاسي لعناتها، وأرسل الله عليهم سيلاً اقتلع جذورهم، وأخرب ديارهم وبساتينهم، وباعد بين أسفارهم، وصيّرهم أحاديث ومزّقهم وكأنهم لم يكونوا بالأمس.