مع إطلالة يوم جديد تتجدد أحلام كثير من شباب القرية في السفر إلى عدن للبحث عن مصدر للكسب ، فالرزق في عدن مسهَّل وطرق كسبه متوفرة ‘ بحث عن اشياء ليحزمها كما يفعل المسافرون فلم يجد شيئاً شد وثاقه حول خاصرته ليقسم الثوب إلى نصفين بالكاد يستر جسده وليس لون واضح له يترجل الطريق وبين الحين والأخر يقف مشيراً بكفيه المملؤتان بالطين لسيارات نقل الخضار علَّ إحداها تقف لتنقله على ظهرها مع البضاعة في صندوق الشاحنة ، تقف شاحنة خضار يتسلق ظهرها ليقف مع جمع من المسافرين نحو المدينة التي سحرت أخبارها ألباب الشباب وطموحهم أن يجدو عمل يحسنوا به وضعهم .
يقبض بكلتا يديه على سياج الشاحنة والغبار المتطاير يملأ عينيه فيغمضهما وفاه مفتوح تختط عليه ابتسامة عريضة فقد وضع قدمه على أول طريق الرزق.
وكلما توقفت الشاحنة أطلق سؤاله الذي حفظه من كان معه على ظهر وجوانب الشاحنة:
وصلنا عدن
فتنطلق الاجابات التي تحمل السخرية من جهل الشاب الحالم ببريق المدينة:
لن ترى عدن حتى ترى نجوم الظهر
تنطلق ضحكات بعض الحاضرين الذين قد خبروا الطريق إلى عدن، أما هو فيعود يشدُّ القبض على سياج الحافلة ويغمض عينيه كي لا يؤديهما الغبار العالق في الهواء الذي يلفح وجوه المتسلقين على ظهر الحافلة ، توقفت الحافلة وهو ما زال مغمض العينين يحسب أن التوقف كالمرات السابقة لتفقد الحافلة من قبل السائق حتى يسمع صراخ من كانوا على ظهر الحافلة :
افتح عينيك .. لقد وصلنا عدن
يفتح عينيه ويهبط من على ظهر الحافلة فإذا به يمسح عينيه ليزيل ما علق بهما من تراب ويحلق ببصره في جولة حول الأشياء كلها التي تقع عليها عينيه ويتفحصها وهو فاتح تغره في حال اندهاش لم يعتاد مثل هذه المناظر مباني متلاصقة ومتجاورة وشوارع مسفلته ومضاءه ومكتظة بالرجال والنساء والمحلات مملوءة بأنواع متعددة من البضائع وهو يشدٌّ نفسه بين شهيق وزفير مبدي اندهاشه في نفسه قبل أن يتلفظ:
ما أجمل المدينة .. إنها سحر، بل هي ساحرة
ثم يتمتم قائلاً :
إنها نجوم الظهر .. أم هي شمس المساء، كل هذه السرج والأنوار
وإذا به يلمح من خلف الطاولات في المقهى المقابل شاشة التلفزيون فيصرف بصره نحوها في حيرة واندهاش وهو يعيش جو من عدم التصديق لكل ما يراه فلم يعهد في قرية سوى الحمير تنقل الماء وما أن تغادر الشمس حتى يذهب الجميع إلى مخادعهم لتوديع يومهم والاستعداد لاستقبال اليوم التالي ، لكن عدن لا تنام ليلها كنهارها ، يدفعه من كانوا معه ليرى الميناء الذي جاؤوا من أجل البحث عن عمل فيه:
انظر إلى السفن
فإذا به يزداد حيرة وهو ينظر إلى السفن العملاقة والروافع الكبيرة , فيصدر تنهيد تنم عن مدى اندهاشه واعجابه بالمنظر الذي يراه والشواطئ الممتدة شرقا وغرباً ، وما زال بصره غارقاً في جمال المدينة وبريقها الذي ذهب بلبه ، فلم يجد شيء يقربه من الواقع الذي أصبح يغوص فيه سوى أن يمد أصابعه يتلمس بها كل الأشياء حوله. قصة قصيرة عصام مريسي